حين تتنفس جذور الوطن؛ تنبض الذاكرة
تقييم ومراجعة كتاب الضحك والنسيان للمؤلف التشيكي ميلان كونديرا — ترجمة: محمد التهامي العماري، عن نشر المركز الثقافي العربي
![]() |
| غلاف كتاب الضحك والنسيان 🎭 |
في بعض الكتب، تنضج سريعًا في القراءة، فتلتقط مشاعر الكاتب وأفكاره وعن ماذا يريد أن يعبر عنه. وهناك كتبًا ترفض أن تكون واضحة أو حتى مفهومة، أو أن تستطيع قراءة كاتبها. مثل هذه بالضبط، أشعر إنها حكايات غيرمكتملة، وإنها نشرت عمدًا عن كاتبها أو بدون علمه. هناك شيئًا مفقودًا بين الصفحات ولم أجده، وأظنني احتاج وقتًا طويلًا واتركه في الفرن ينضج ويستوي بالشكل الذي يريده. حتى لا أظلمه. ولا أشكك به. ولكن تدفعني مهمةالكتابة اليومية إلى ذلك، فلا بيدي إلا المحاولة.
هل تعرف شعور أن تزور مدينةً لا تعرفها ولا تعرف معلومات عنها وتشعر بالاغتراب؟
أو تلك اللحظة التي تبحث فيها عن مطعمك المعتاد للأكل عوضًا عن تجربة مطعمًا جديد؟
أتعرف طعم الدواء بعد المرض؟
آخخ، هذه مشاعري نحو الكتاب، لا أشعر بالألفة وهناك طرفً غريب أم أنا أو الكتاب!
في لحظات عديدة وفي كتب كثيرة قرأتها تمكنت من السيطرة على النص وعلى أفكاره، أمَّ هنا لا أحد يُسيطر على الآخر!
لا الكاتب ولا حتى القارئ والطرف الخفيّ "المترجم" كان تأثيرة متماثلً مع الشعور، بسبب نقلة المترجم من النص الأصلي وأظن أيضًا هذه تدخل في السياق الذي وصل إلي.
أظن الكاتب كان يحاول أن يصل لوجهةً ما، ولكنه لم ينجح في ذلك، وأتفهم أنه يرغب بذلك بقوة!
ومن هذا المنطلق فإننا نكتشف فشله في الوصول إليها، ونحن معه على كتفيه لم نفهم كيف وصلنا ولماذا وصلنا إلى ما نحن فيه. وأدّى ذلك إلى المقالات، أو القصص القصيرة، التي لا تتم بصلة ببعضها، وإنما متفككة متفرقة، وإذانوّيت الكتابة بإسهاب، فأوّل قصة كانت مذهلة جدًا وشعرتُ بأنها حبكة مصغرة من المسلسل التحفة فارغو. والقصة الأولى أو الحكاية، كانت دفعة شيّقة للمزيد، ثم عبست لمحاولتي في فهم ماذا حصل في الحكاية الثانية!
هي مقالات قام بكتابتها ميلان في عمله "كتاب الضحك والنسيان" عام 1979 فقد نسجه كونديرا من سبع خطوط سردية وحمل عناصر من اتجاه الواقعية السحرية في الأدب. وأصدر في عام 1988 روايته "الخلود"، التي تعد واحدة من أبرز رواياته. بحسب صحيفة البي بي سي بالعربية، فبالفعل ما هي إلا سبع خطوط مقالية أو قصصية، مبعثرة،تخرج بروح الكاتب ثم تعود روحه لتختفي في الذاكرة، فأنام من فرط التفكير على ما قرأته. ويرسم لي الإحباط صورةً ممزقة بشعة لوضوح رؤيتي السابقة. فألوم نفسي على اختياري، وتارةً أخرى أتذكر الجوانب الفنيّة القبيحة في الأدب.
أظن ميزته الأدبية ليست السردية الروائية فحسب، بل اللزوجة الحقيقة لما يشعر به وأسلوبه في دمج شيئان متناقضان، مثل الضحك والنسيان. في كل قصة يكتب المؤلف نوعًا من ألم الخيانة الوطنية حتى لو لم تكن واضحة كما قرص الشمس، تنتهي بطريقة تجعلك تفكر بمدى أهمية هذهِ المشاعر تجاه وطنه. وخيانة الوطن لا يمكن أنتصف بأي طريقةً لكن ميلان خنقني بها من خلال كتابته. مثلما كتب الشعب التشيكي يستطيع أن يرى أمامه في لحظات الصفاء صورة موته، ليس كحقيقة وكمستقبل محتوم، بل كإمكانية ملموسة. فموته قائم. كلما تقبلت وجودالشخصيات ومضيت معهم أجده ينحر أعناقهم من صعق الخيانة وأتفاجأ ويهبط الشعور بالإحباط. ثم أفكرُ بالسبب الرئيسي خلف ذلك وأصمت صمتًا طويلًا. وما الذي يمنعه من نحر أعناقهم إذ كان الهدف خَنق القارئ؟
تظهر «تامينا» شخصية في عالم الأدب الخاص بميلان، فيصفها كما وصفت الجدة في القصة الثانية شخصية «نورا» التي تشبه «إيڤا»، بقوام ممشوق وطويلة ومخلصة في حبها لزوجها الميّت. وفي كل قصة أشهد لحظات تظهر بخفة من الكاتب بأن بعض الأحداث كانت تظهر الرجل بصورة محاولًا على السيطرة في كل شيء. وقد يكون هذا شعوره الشخصي الذي يتمكن منه وتسرب عبر الكلمات والقصص القصيرة هذهِ. وكأنا ميلان يفضح نفسه خلال نصوصه وقصصه، وهذا غريب جدًا. كأنني أجلسُ معه ويروي لي هذه القصص كلها وأفهم إنه عاشها في أيام قديمة.
يتخذ هذا الكتاب بكامله شكل تنويعات لحنيّة، إذ تتوالى أجزاؤه مثلما تتعاقب أطوار رحلة تقود إلى عمق موضوع،عمق فكرة ما، أو تقود إلى داخل وضعية واحدة فريدة يصعب عليّ فهمها لضخامتها. إنها رواية حول تامينا، وفي اللحظة التي تختفي فيها تامينا عن الأنظار، تصبح رواية من أجل تامينا. فهي الشخصية الرئيسة، وهي أيضًا المستمع الرئيسي، وكل الحكايات الأخرى ما هي سوى تنويع على قصتها الخاصة، وتتلاقى في حياتها ما في المرآة. إنها رواية تدور حول الضحك والنسيان، وحول النسيان وحول براغ، حول براغ وحول الملائكة.
هذا تعبير صريح للمؤلف بأن الكتاب يتمحور حول شخصيته الأدبية «تامينا»، وقد عبر سابقًا إنه يفهمها في تأنيبها لنفسها، وكأنه يحدثها طيلة الوقت في الحكايات. أحيانًا تتحول إلى مستمتع وأحيانًا هي الشخصية الرئيسية كما قال في بداية الفقرة فهي شخصية رئيسية في الكتاب.
لا أحاول جاهدة لفهم أو معرفة جهود المؤلف، لكن لأبد بأيّ طريقةً تظهر صفات أو سمات شخصية معينة من الكاتب نفسه. وأكثر هذه الصفات إنه يرى المرأة أقلً منه، ويحاول أن يكون مسيطرًا سواء على نفسه أو على ظروفة وبيئته التي اختلقت هذه الدوامة بأكملها. وأن يشعر بالنفيّ من موطنه وتظهر بكل شخصية يكتبها، كما حدث له. أغرقني الكاتب حقًا عن فترته الزمنية التي أثرّت به في حياته اتجاه وطنه، وعلمني قيمة الوطن حيث كان يكتب بألمه وينزف قلمه في النشوات الجنسية لشخصيّاته.
لم أفهم مشهد اغتصاب الأطفال «لتامينا»!
حاولت تفكيك المشهد بأكثر من طريقة، وهي أن «تامينا» متوفية أصلًا، وقد تكون سفرتها للجزيرة ما هي إلادخلوها للجنة أو الخلود. التفسير الآخر وهو أنها قد تكون الملائكة وتحاول تذكيرها باستمتاع جسدها. عدا من هاتين التفسيرين لا يمكن أن أفكر أكثر في الموضوع، فأنا بالفعل لم أفهم شيئًا مما كتبه في حكاية الملائكة. واستنكرت حقًا طيلة القراءة ورغبت بالفعل عن كتابة هذا المشهد بالتحديد لأنه كان غريبًا جدًا وقد يكون تنبيه لمن سيقرأ لميلان. ومن الجيد قراءة أفكاره المبعثرة، ولكنه يحث نفسه على دفع الجنس في كل شيء، مما يؤدي إلى ابتذال سردي. وبالمناسبة هذا أول كتاب اقرأه لميلان، ورأيت تشيدات له في كتابته، وأنه كاتب مذهل، لكن لا أدري قد أقف كعنصر محايد بين قبول الكتاب أو رفضه أو حتى أعيد التجربة مرة أخرى. لأن إذ كانت كل رواياته على هذين النمطين، الشعور بالنفي والقصص القصيرة فلا أظنني سأخوض تجربة جديدة معه.
يجد كونديرا أن الضحك يعزل الإنسان، بينما تجده آلاء حسانين، وتذكرنا أنه ليس هربًا من الواقع، بل وسيلة لإعادة صياغته. وفي الضحك أيضًا هو ما شكّل أعيادنا، هو ما جعلنا عائلة متماسكة دون أن ننتبه. أدركت أن الضحك نفسه يمكن أن يكون مرآة للهوية. أن الضحك هو القاسم المشترك بين البشر، كأننا من خلاله نؤكد إنسانيتنا. ومع كل المجتمعات الثلاثة التي عاصرتها آلاء تجد أن الضحك هو القاسم المشترك الضحك لا ينفي الألم، لكنه يعيده إلى حجمه الطبيعي.الضحك هو التعبير الأصدق عن إنسانيتنا.
وأخيرًا، كلما قرأت كلما تذكرت تلك النكهة التي تخرج فجأةً في قطعة شهية من الشوكولاتة أو الحلويات الشامية التي تفسد بقية الحلوى. ولأنني مضيتُ وقتًا طويلًا على أكل الحلويات الشامية فأنا متأكدة بأنها نفس طعمها لأنني استطعمتها أثناء قرأتي. وربطي العجيب هذا ظهر من اليأس من هذا الكتاب. ندمت. لكنني تعلمت، كيف يكتب ميلان كونديرا.
وإذ كان على الضحك والنسيان، فالضحك بهجة الروح ولغة روحية لها صدى إنساني، والنسيان هبة من الخالق حتى لا نلتفت كثيرًا، فلو ضحكنا ونسينا قد يجمعهما دموع الفرح فننسى الآلام، لكن لن ننسى ما فعله الوطن.
— نضال الإنسان ضد السلطة هو نضال الذاكرة ضد النسيان.
— عندما كان التاريخ يسير ببطء، كانت أحداثه القليلة تعلق بسهولة في ذاكرة الناس، فتنسج لوحة خلفية يعرفها الجميع، وتعرض الحياة الخاصة، على تلك الخلفية مغامراتها في فرجة مثيرة… أما اليوم، وبعد أن صار الزمن يسير بخطى واسعة، فإن الحدث التاريخي الذي ينسى في ليلة واحدة سرعان ما يتلألأ في الغد على صفحة ندى الحدث الجديد، فلا يعود بذلك لوحة خلفية في سرد الراوي، بل يغدو مغامرة مفاجئة تجري على خلفية الابتذال المألوف للحياة الخاصة.
— تحاكي الأحداث التاريخية أحيانًا بعضها البعض بلا موهبة.
— سيرغمونه على التخلص من حياته ليصبح مجرّد ظل، ويغدو رجلًا بلا ماض، وممثلًا بلا دور؛ حتى الحياة التي تخلص منها والدور الذي تخلى عنه سيحولونهما إلى ظل، وسيتركونه يعيش هذه الحياة المكشخة كظِلّ محض.
— جميعهم يعلنون الرغبة في صنع غد أفضل، لكن الأمر غير صحيح، لأن المستقبل ليس سوى فراغ مهما لا يهم أحدًا، مقابل الماضي المفعم بالحياة، ووجهه مزعج وبغيض إلى حدّ أننا نرغب في تدميره أو إعادة تلوينه.
— ومن جديد لم يكن العالم بالنسبة إليه سوى عائق يعرقل حركته.
— أن تضحك معناه أن تعيش بعمق.
— الملائكة ليسوا أنصار الخير، بل هم أنصار الخلق الإلهي؛ بخلاف الشيطان الذي يرفض أن يكون للعالم الإلهي معنى عقلاني.
— أننا لا نحظى بالخلود إلا في أرشيف الشرطة.
— الرواية ثمرة وهم إنساني. وهم القدرة على فهم الآخر. ولكن، ماذا نعرف عن بعضنا بعضًا؟
— في النظر من الخارج، لم أعش شيئًا. من الخارج! لكن لدي انطباع بأن تجربتي الداخلية تستحق أن تكتب ويمكن أن تهمّ كل الناس.
— نحن نؤلف الكتب، لأن زوجاتنا تغلق آذانهن عندما نكلّمهنّ.
— أدركت أن السلطة واحدة في كل مكان، عندكم وعندنا، في الغرب والشرق. لا ينبغي السعي إلى استبدال نوع من السلطة بآخر، بل ينبغي أن ننكر مبدأ السلطة ذاته، ننكره أينما وجد.
—أن ذاكرة التقزز أقوى من ذاكرة الحنان.
— إن المطلق في الحب هو في الحقيقة رغبة في التماهي المطلق: حتى يصبح الحب مصدرًا مستمرًا للعذاب.
— المرأة أكثر تفوقًا منا دائمًا.
— أن المرأة الشاعرة هي امرأة مرتين.
— الشاعر وحده يدرك قيمة ما يكتب، أمّا الآخرون فيكتشفون ذلك في وقت متأخر كثيرًا عنه، وقد لا يدركونه أبدًا.
— الفهم يقتضي الامتزاج والتماهي، وهذا هو سر الشعر. إننا نفنى في المحبوبة، ونفنى في الفكرة التي نؤمن بها،ونحترق في المنظر الذي يثيرنا.
— إن الضحك انفجار ينتزعنا من العالم، ويقذف بنافي عزلة باردة. فالمزاح يشكل حاجزًا بين الإنسان والعالم، ومنثمة فهو يعادي الحب والشعر.
— إن زمن رواية كافكا هو زمن إنسانية فقدت صلتها بالإنسانية. إنسانية لا تعرف شيئًا، ولا تذكر شيئًا؛ تسكن مدنا ليس لها اسم، وشوارعها لا اسم لها، أو تحمل اسمًا غير اسمها في الماضي، لأن الاسم شكل من أشكال الاستمرارية في الماضي، والناس الذي لا ماضي لهم، هم أناس بلا اسم.
— لتصفية الشعوب، يُشرع بتخريب ذاكرتها، وتدمير كتبها وثقافتها وتاريخها وينبري آخرون لتأليف كتب أخرى،وإيجاد ثقافة أخرى، وابتداع تاريخ آخر.
— يخيّل إليّ أن بعض من يشعرون بالوحدة يرغبون في أن يساقوا بين الفينة والأخرى إلى مخافر الشرطة كييُستنطقوا، ويتمكنوا من الحديث عن أنفسهم.
— إن النظرة الحزينة التي تنظر بها إلى الماضي لم تعد تعبيرًا عن وفاء لشخص ميت، لأن الميت اختفى من مجال بصرها، ولم تعد تنظر إلا في الفراغ.
— إن الإنسان يدرك عدم قدرته على استيعاب الكون بشموسه ونجومه. وهو إذ لا يطيق هذا، فهو يحتمل عجزه أكثر عن استيعاب اللانهائي الآخر، هذا اللانهائي القريب منه، والموجود في متناوله. وإذ كنا ننظر إلى عدم قدرتنا على فهم العالم الخارجي كشرط طبيعي، فإن عجزنا عن إدراك اللانهائي الآخر يجعلنا نؤنّب أنفسنا إلى أن نموت.
— رغم كون الإنسان فانيًا، فهو لا يستطيع تصور نهاية للمكان ولا للزمان، ولا للتاريخ ولا للشعب. إنه يعيش دائمًا في لا نهاية وهمية.
— أن كل تكرار تقليد، وكل تقليد لا قيمة له.
— أننا جميعًا نقيم على حافة الموت، وأن العالم بأسره، الغارق في العنف والقسوة والهمجية، جالس على هذه الحافة.
— الأشياء عندما تتكرر، تفقد في كل مرة شيئًا من معناها، أو بعبارة أدق، تفقد شيئًا فشيئًا قوتها الحيوية التي تضفي عليها وهم المعنى.
— أن قبح الإنسان من قبح لباسه.
— التقييم النهائي: ٦ من أصل ١٠ 🎭.

.png)

تعليقات
إرسال تعليق
شاركني رأيك، لأنه يهمني.. الخانة مفتوحة لبحر كلماتك 💌