أخيرًا لقاءًا جديد نقي مع «دوستويفسكي».

 تقييم ومراجعة كتاب المقامر للمؤلف دوستويفسكي عن ترجمة : د. سامي الدروبي 

بعد تجرّعنا للألم النفسي والمعنوي. بعد ألم الوحدة والخوف والحيرة. والحب الأبوّي النقي. ونتعمق في الأدب الإيرلندي. ندخل الان بوابة الأدب الروسي العميقة الواسعة السوداوية الأدبية. سبق وقرأت في الأدب الروسي فأنا اعرف جودة هذا الأدب العميق. لكن هذا الكاتب فلا. أخيرًا ألتقي مع دوستويفسكي، أخيرًا اقرأ هذا الأدب الذي لطالما أخبرت أيّ شخصًا بأنني أحبُ القراءة يسألني سريعًا وبحماسةً تشغل عيناه، هل قرأتي لدوستويفسكي، فأجيب بيأس على كتفيّ وبكلمةً واحدةً؛ لا. فيخيب ظن سأليّ. وها أنا الان بين يدي وفي مكتبتي وفي صندوقي الأحمر الممتلئ بالكُتب، ثلاثة أعمال شهيرة سوداوية لهذا الكاتب العظيم. لِنبحر سويًا في عالم المُقامر، عالم ديستويفسكي. لِنتجرع الأدب الروسي بلذةً وبحيرةً. لِنُجيب أسئلةً تملأها شعلة الحماسة. فليساعدني الله ولا يخيب ظني هذا الكاتب.

إنها الطاولة التي اضطربت بقلبهِ وعقلهِ، "قد ألهبه هوى هذهِ المقامرة" — "ظن أدرك القواعد" إنها الأموال التي كلما خرجت كلما زادت خسارتك، كلما غضبت كلما رميت الأموال. "قائلًا: (لقد أصبحت أعرف السر حقًا: إنه سر بسيط غاية البساطة، وهو أن يمتنع المرء من حين إلى حين، دون أن يهتم أي اهتمام بمراحل اللعب، ودون أن يفلت منه زمام سيطرته على أعصابه. ذلك كل شيء. يستحيل أن يخسر اللاعب متى اتبع هذهِ القواعد)." مثلما أحّب هذهِ الطاولة التي تبعدهُ عن العالم، أحب امرأة وبقى في طوّعا عبدًا مُحبًا. لكننا نجد الحيرةً في هذهِ العلاقة! نجد منبع الإنسان ودوافعهِ الغريبة! تاهةً يرغب بها وتاهةً يُريد أن يخرجُ قلبها بين يديه. ثم يرغب أنّ تأمرهُ برمي نفسهِ لأجل أن يُبين طاعتهِ لها. «أنّ الحب الذي يحمله لباولين لهو مزيج من حب وبغض معًا: إن ألكسي يعترف لباولين بأنه يجد في عبوديته تجاهها ملذات كبيرة، ويقول لها إن في المذلة والسقوط لمتعة عظمى… وهو يخاطبها بقوله: استفيدي من عبوديتي، استفيدي منها!… هل تعلمين أنني سأقتلك في يوم من الأيام؟» ولكنها بعد كل هذهِ الحيرة والاضطرابات نجدها تدفعه عنها ثم لا تهتم به. ترميه للمشاكل وتصعد على الدرج بقدميها ولا حتى تُلقي بالًا إليه. ونجده يشعر بلذةً الطاعة والخضوع. يتدفق في جسدهِ نسغ الحياة، وكل ما يضطرم فيه من قوى، وكل ما يعصف به من فوران واندفاع، وكل ما يتصف به من جرأة وجسارة، النقطة الأساسية هي أن هذا كله تستنفده الروليت. سَيقتله حبان جامحان قويان. المرأة وطاولة الروليت.

على رغم من ارتباك هذهِ العلاقة إلا إنني وجدتها مثيرةً لي نوعًا ما. فقد شعرت بالإثارةً تلو هاذين الشخصين! تقدم لهُ المال المرأة التي سيدفع روحهِ على الجسر لأجلها لِيُقمار لها على الطاولة التي تُنسيه هذا العذاب. يعني بذلك إنه يربح عصفورين! المرأة والطاولة. ونشهد معه في هذهِ الربكة خسارتهِ للإثنين! فلا يربح بالمرأة ولا يربح بالمال. فلما هذا العذاب؟ ونجده ‏يتساءل بعد ذلك قائلًا: "أأنا أحبها؟" ومرة أخرى لم أستطع أن أجد لهذا السؤال جوابًا؛ أو قل إنني أجبت، للمرة المائة، بأنني أكرهها، نعم أكرهها. مرّت بي لحظات (وخاصةً في ختام الأحاديث التي تقوم بيننا) ‏تمنيت فيها أن أحب نصف عمري في سبيل أن أخنقها! أقسم أنه لو كان في وسعي أن أغمد خنجرًا مسنونًا في صدرها على معبد لشعرت من ذلك بمتعة فيما أظن. ومع ذلك أقسم بأقدس ما أقدَّس أنني لو طلبَتْ مني ونحن على جبل شلانجنبرج، أن ألقي بنفسي من أعلى قمة يرتادها الناس، لرميت نفسي فورًا، ولشعرت من ذلك بغبطة. أنني أعي كل الوعي أن رغباتي كلها عبث لا رجاء فيه، شعرت من ذلك بلذة لا تفوقها لذة". ثم نراه يعود في حديثه ثانيةً ليُعبر عنها بصورة رقيقة "إنها تعرف مثلًا أنني أحبها حب جنون. بل إنها تسمح لي أن أحدثها عن هيامي بها. وهل ثمة وسيلة أفضل من هذهِ الوسيلة لإظهار ازدائها بي؟".

لأنه شخصًا مغرورًا بنفسه وطريقة لعبه التي في كل مرة لا يحسن التصرف فيها أو لا يتوقع نتيجة الفوز فيقول «أنَّ الروليت لم تُخترع إلا للروس». لم يعجبه الفرنسي استحلال الروس للروليت فقال لهُ «على أي أساس تبني رأيك؟» — رد بغرور مباغت «على أساس أن مَلَكة جمع رؤوس الأموال قد دخلت، خلال التاريخ، في سجل فضائل الإنسان الغربي المتمدن ومزاياه؛ بل لعلها أصبحت البند الرئيسي في هذا السجل. أما الروسي فليس عاجزًا عن جمع رؤوس الأموال فحسب، بل أيضًا يبعثر هذهِ الأموال هنا وهناك دون أي إحساس بما يحسن وما لا يحسن. ونحن الروس في حاجة أيضًا إلى مال على كل حال، لذلك نرانا شرهين إلى وسائل، كالروليت وما إليها، تستطيع بها أن نحصّل ثروة طائلة على حين بغتةً خلا ساعتين من غير أن نعمل. إنَّ يغرينا ويفتن لبنا. ولما كنا نقامر بلا تعقل وتخبط عشواء دون أن يسوءنا ذلك، فإننا نخسر». رغم شدة تعلقه بهذهِ اللعبة التي قد تؤدي بحياته إلى التهلكة إلا إنه في كل مرة يلعب يحاول جاهدًا بنفسهِ لأجل أن يفهمها. بطل الكاتب دوستويفسكي

هو لا يزال يعتقد أنَّ الروليت مخرجه الوحيد وسبيله إلى الخلاص. حتى بعدما دمرته ببطيء شديد على أوتار النشوة. وبنفس الوقت هنالك عبودية پاولين. امرأة وطاولة. «كنت تقول إنَّ هذهِ العبودية تهيىء لك لذائذ عذبة». رغم إنه يعرف في سرَّه إنها ليست جميلة ولا يعرف ذلك بحق. «يشهد الله لا أدري أهي جميلة، لكنني أحب أن أنظر إليها حين تتوقف أمامي هذا التوقف؛ ومن أجل ذلك إنما أحب أن أستثير غضبها». وفي الوقت ذاته يريدها أن تقول كلمة واحدة فقط واحدة وسيرمي نفسهُ من الهاوية من أجلها. وإنه متأكد جدًا إنها لا تتمتع بأيّ مزايا.

رغم تلاعب الشخصيات البسيط في إطار القصة إلا شخصية الجدّة أخذت حيزًا كبيرًا في السرد وكانت الشخصية الوحيدة ذات التعبير القوي في وصفها فقد قال المؤلف على إحد الشخصيات تعبيرًا عنها «إنَّ القسمات الصارمة والملامح المسيطرة في الجدة المتربعة على عرشها هي التي كانت تجذب الانتباه خاصةً. وكانت كلما صادفنا أحدًا تُزنه بنظرتها الفاحصة فورًا، ولا تني تلقي عليّ أسئلة عن جميع الناس بصوت عال. كان للجدة مزاج قوي، ورغم أنها لم تبارح كرسيها فإن المرء يحزر متى رآها أنها طويلة القامة. إنها تجلس منتصبة الجذع كرف الألف لا تستند على الكرسي، وترفع رأسها الواسع عاليًا، أبيض الشعر، سميك القسمات بارز الملاح. وهي تنظر إليك نظرة كبرياء بل ونظرة تحدٍّ. ولكنك تحس أنَّ نظرتها وحركاتها طبيعية تمامًا لا اصطناع فيها. ورغم الخمس والسبعين عامًا، فإنَّ في وجهها شيء من نضارة، وحتى أسنانها لم تكن قد ساءت حالها كثيرًا. وكانت ترتدي ثوبًا من حرير أسود، وتضع على رأسها قبعة صغيرة بيضاء». لا شك كان وصف إبداعي سلسل في شخصية الجدّة، تشعر بِحدتها وشخصيتها المتسلطة وتحكمها. تشهد في ملامحها القوة والصرامة الحادّة. فعلًا أكثر شخصية ابتلعت المساحة في القصة.

رغم صوت الجدّة العالي في حضورها في القصة والسرد إلا بدأت أشعر بالملل في حضورها القوي، فقد كانت تبدد المال في صالات القِمار وكانت المشاهد كأنها تتكرر كثيرًا فقد شعر بالملل بالفعل لعدم إرتباطي لهذا المشهد ولأنني أصلًا من الأساس لا أعرف الجدّة كثيرًا فقط من الشخصيات الأخرى التي تَهابها وتخافها وعند حضورها نجد إنها قد بددت أموالها التي يُقال إنها "للورثة"، فلم يتبقى أيّ مال معها، وتدهورت احوال الوارثين. لكن بعدما غادرت بهدوء بدأت القصة تعود لِسردها الهادئ بين الشخصيات وقصة پاولين الحبيبة الأولى.

إنّه بالفعل يُجالسنا، ويعلم إننا نقرأ مذكراته بإنصات. وعبّر بذلك في نص قائلًا: «المرأة التي فتنت عقله وسحرت لبّه. إنَّ مدموازيل بلانش جميلة ولكنني لا أدري هل يفهمني القارئ إذا قلت أن وجهها هو من تلك الوجوه التي توقظ الرعب في النفس».

بحسب ماقرأت في المقدمة أنَّ الكاتب "ديستويفسكي" عبّر عن شخصيته بجزء كبير منه، وأنهُ يعاني من نفس مشكلة بطل الرواية وهي العنوان الرئيسي. القِمار. لا اعرف الكاتب معرفة جيدة عن ماضيه أو حتى نصوصه الأدبية أو كُتبه كثيرًا. ولكنني شعرت أنني قريبة كفاية لمعرفة الألم الذي مرّ به مع هذهِ الطاولة المشؤومة. لا اسمع البطل كثيرًا وأشاهد العديد من المشاهد من خلف عينين البطل واستمعت بهذا المنظر كثيرًا، فلم يكن تركيز الكاتب كثيرًا على البطل. كانت هناك مشاركات عديدة من الشخصيات.

أحببت النهاية جدًا على رغم كثرة الأحداث والتي أصابتني ببعض من الملل إلا إنني أغلقت عالم «دوستويفسكي» بإبتسامة جيدة وشعور مُريح على هذهِ النهاية. نعم يجب أن تُعطيها فرصة. لكن هل كان أسلوبه جيد؟ وكيف كانت كتابته؟ لا أرغب بالبوح عن هذهِ الأفكار الآن لأنني أرغب بحق إعطاءه فرصة أخرى، لأن كانت المُقامر طبق تحليّة قبل العشاء، فأنا سأنتظر العشاء بكامل طاقتي وحماستي في الشهر القادم بإذن الله. 

إنها تهب نفسها لمن يجزل بالعطاء أكثر من غيره.

تدعوه إلى مائدتك فما يلبث أن يضع فوقها قدميه.

إنَّ الكفاح يرفع قدر الإنسان ولا يخفضه.

إنني لا أرى في أي مكان شيئًا سواكِ، وكل ما عداكِ فهو عندي سواء. لماذا أحبك؟ وكيف أحبك؟ لا أدري. قد لا تكونين من الجمال على شيء البتة. هل تتصورين أنني لا أعرف هل أنت جميلة أم لا، حتى من ناحية جمال الوجه؟ أما قلبك فسيء ولا شك، وأما فكرك فمن الجائز جدًا أن يكون مجردًا من كل رِفعة ونُبل.

اللذة مفيدة دائمًا، والسلطة المطلَقة التي لا حدود لها نوع من المتعة، ولو كانت سلطة على ذبابة. الإنسان ظالم بطبيعته: إنه يحب التعذيب. وأنت تحبين هذا أكثر مما تحبين أي شيء آخر.

كلما أمعنت في ذلك، ازددت تلذذًا بهِ.

أنا ذاهب إليك، وأنت آت إليّ.

إني أحمل لك شعورًا بالصداقة، لذلك كنت ذاهبًا إليك.

أنت تعلم أننا نعقد صلات حتى بأناس نكرههم، إذا قادتنا الضرورة إلى ذلك. فقد يكون هنالك صِلات تجهلها، صِلات لها علاقة بظروف ثانوية طارئة. فتستطيع أن تطمئن نفسك من هذهِ الناحية.

فوجئت لحظة شرعت في رواية القصة بأنني أكاد أعجز عن أن أتذكر أيّ شيء دقيق واضح محدد عن صِلاتي بها. بالعكس: كان كل شيء أقرب إلى الخيال، غريبًا، مهلهلًا، مفككًا، لا يشبه شيئًا ولا يشبهه شيء.

إنها تريد أن تتخذني صديقًا، وأن تجعلني نجيّها وموضع سرّها. حتى لقد قامت بمحولات في هذا السبيل. ولكن الأمر لم ينجح، فاحتفظنا بهذهِ الصِلات الغريبة العجيبة. وبسبب هذا إنما بدأت أكلمها على هذهِ الصورة ولكن إذا كان حبي قد ساءها، فماذا لم تمنعي من أن أكملها فيه منعًا باتًا؟ — أنا واثق من هذا. لقد شعرت به: كان يمتعها ويحلو لها، بعد أن تصغي إليَّ وتستثيرني إلى حد العذاب، أن تبلبلني فجأة بعلامة صارخة تنبىء عن احتقار أو تدل على قلة الاكتراث وعلم المبالاة. وهي تعلم مع ذلك أنني لا أستطيع أن أحيا بدونها.

أنا إذا جئت جئت كلّي. تلك عادتي. ولسوف ترى ذلك توًا.

نعم، رب خاطر هو أقرب الخواطر إلى الجنون، وأدناها إلى الاستحالة، يبلغ من قوة رسوخه في الفكر أن المرء يخاله ممكن التحقيق، حتى إذا كان هذا الخاطر مرتبطًا برغبة قوية ملتهبة جامحة اعتقد المرء أخيرًا أنه أمر حتمي، ضروري، فرضه القدر منذ الأزل، أمر لا يمكن إلا أن يكون، ولا يمكن إلا أن يحدث! ربما كان ههنا شيء أكثر من ذلك: ربما كان ههنا مزيج من نبوءات يحسّها المرء، ومن جهد خارق تبذله الإرادة، ومن خيال سمم المرء بهِ نفسه بنفسه، ومن أشياء أخرى أيضًا… لست أدري… ولكنني في ذلك المساء (في ذلك المساء الذي لن أنساه ماحييت) وقعت لي مغامرة معجزة. ولئن كانت المعجزة تفسّر بالحساب، فإنها تظل في نظري معجزة. ولماذا، لماذا كان هذا اليقين قد بلغ ذلك المبلغ من العمق والرسوخ في نفسي، منذ أمد طويل؟ لقد كنتُ أفكر فيه (أعود فأكرر ذلك) لا تفكيري في احتمال جائز (ومن ثم غير مؤكد)، بل كنت أفكر فيه تفكيري في شيء لا يمكن إلا أن يحدث.

ضلت سبيلها فذهبت إليك.

— التقييم النهائي : ٨ من ١٠ 🎲.


تعليقات

المشاركات الشائعة