عن ماذا سَتتنازل مقابل الجوع؟

تقييم ومراجعة رواية الجوع للمؤلف النرويجي كنوت هامسون عن ترجمة، محمود حسني العرابي عن مكتبة نوبل


من الان سأقولها بوضوح هذا كتابي المفضل من الصفحات الأولى فقط من الساعة الأولى، من بداية النص حينما وصف بطلنا مشاعره وحياته الخاصة — كُنتُ في شدة الجوع الهائلة، فتناولت قطعة خشب من الطريق ألوكها في فمي. وقد أفادتني بالفعل، فكيف أني لم أفكر فيها من قبل!

إذا رغبت بالمزيد من كتاب معين أو قراءة نص معين هذه تسمى خطفة الكتاب، وهذا مافعله بي الجوع.

هدفه مقالاته وعشرة كورنات وفطور فاخر..

هل هذا كثير ليطلبه؟

مثقف، شريف، صحفي، كاتب.. لكنه فقير وجائع

ولأن الجوع منهك، وضع سبابته في فمه وأخذ يمصها فأبتدأ ذهنه يتحرك وطغت فيهِ فكرة صادمة، ماذا لو قضم إصبعه الان؟ وبدون تدبير، زررت عيناه وطبّق على اسنانه.

إلى أين ‏تعتقد قد يأخذك الجوع إلى أين تفكر حينما لا تجد وجبة تاكلها وماذا يعني لو نعيش يومًا بدون أكل فماذا سيحدث للإنسان والعقل البشري إذا لم يأكل لمدة طويلة.

‏الجوع هي حالة نفسية مبنية من الفيلسوف كنوت هامسون مختص بالحالة الإنسانية النفسانية وأغتر كاتبنا من ديستوفسكي خلال شخصية بطل رواية الفقراء.

رواية نفسية عن الحالة الإنسانية ‏التي قد تصيب الإنسان مقابل الجوع، هل ستتنازل عن مبادئك؟ عن عقيدتك، عن إيمانك، عن شرفك! مقابل لقمةً تضعها في وسط معدتك الفارغة! ثم تاليًا تلفظها معدتك لتبكي ساعات طويلة، هل تتقبل ألم ما بعد الجوع أو اللقمة التالية، أو حتى تقبل معدتك للطعام بعد لفظها!

صراعات نفسية مع الذات، لا يكون الجوع للطعام وحدهُ، هو جوع الرومانسية، جوع الحياة، جوع العمل، جوع الاجتهاد، جوع المزاج! إنها فلسفة عميقة التفكير، رواية إبداعية متكاملة تُخلد في التاريخ.

هناك فرصً كثر لبطلنا المثقف الجائع لكنه عوضًا عن ذلك اختار الشرف والبقاء على قيد الحياة بضرب الجوع عليه كل مرةً يمارس فيها نشاطات حياته الطبيعية، يضربه بمعدته أولًا، ثم أعضاءه ثانيةً، ثم يستولى عليه الأمر في عقلهِ، فيبدأ هذيانه ويظهر كبرياءه، ولكن سريعًا ما يتخبط من الحزن والبكاء والإحباط والشعور باليأس على ذاته. ماذا يفعل أكثر من ذلك الجوع؟

إنه قاتل خفّي يخلق في داخل الإنسان، فيحاربه الإنسان من ضعف ووهن منه، يحاربه لأنه يريد البقاء شريفًا، وكاتبًا مثقفًا يكتب المقالات بعد التهام وجبة الإفطار التي تخرج له من ولادة عسرة، مقابل عشرة كورنات.

الجوع هي سلسلة إحباطات لبطلنا المسكين الشريف، ما الذي يمنعه من السرقة؟ ما الذي يمنعه من القتل؟ ما الذي يمنعه من التهديد؟ في حيّل الجائع كثيرة وفي كفتّه القليل، يستطيع القتل، الهروب، السرقة، الزج بالزنزانة.. لكنه لا يزال يختار الشرف. يختار أن يتفضّل على الناس وهو لا يملك قرشًا في جيبه، لا يملك سترةً تدفيه عن البرد، لا يملك مسكنًا! لكنه يرغب بتقديم الكثير للآخرين.. كلما شاهد شخصًا أو طفلًا أو عجوزًا راح يجتهد في جيوبه يبحث بنفسه عن نقود أو أيّ شيءٍ يقدمه لهما. ولكن تارةً نرى الجوع يدفعه مرةً أخرى إلى الهاوية فيهبط الكبرياء ويعلوا الغضب والسيطرة، فيأخذ يصرخ بوجههم أو يقول كلامًا غير لائقًا، فنشهد تخبطًا واضحًا واضطرابًا مخيفًا في شخصيته. في شخصية بطلنا الذي لم نتعرف على اسمهِ أو عمرهِ أو حتى عائلته! 

وفي الوقت ذاته تتعاطف معه حينما يتحدث إلى نفسهِ برفق شديد، وعدت أخاطب نفسي في رفق، عاتبًا عليها بلغة الأمهات وانقلبت رقيق المزاج، فأخذت أبكي من التعب والخور بكاءً صامتًا هو أسى عميق لا دموع فيه. تتعاطف معه ولكنك تلعنّهُ في سرّك.

يقول إنه صادق وعلى الناس أن يشكروا الله لوجوده لأيمانه التام بالخالق ولصدقهِ ولتقديم الصدقات على المحتاجين، لكنه في الوقت ذاته يجد نفسه سريعًا في الكذب والغلو في الآخرين وخلّق قصص لم تكن موجودة، وابتكار شخصيات عديدة لنفسه، إليس هو صادقًا ومؤمنًا فلماذا يكذب هكذا؟ من سمات الصالح المؤمن الصدق. لكننا نعلق في عقلهِ طول الوقت، طول حياته، طول القصة.

نتهمه بالعديد من الاتهامات لكننا لا نفهم شعوره أبدًا، كانت لديه العديد من الفرص والاحتمالات في أن لا يكون بهذهِ التخبطات في حياته والجوع الشديد والبرد القارص، لكن لو تحسنت حياته فلماذا ستكون هناك قصة عنّه اصلًا دون معناها؟

ماذا عن الفيلم؟

جسّد الممثل شخصية بطلنا النرجسية بشكل واضح، حيث كانت ملامح وجهه تبدو في غاية الغرور حينما يتحدث مع الآخرين بتلاعب وكذب. لكن سرد الأحداث كان مزعج لأنها غير دقيقة مثل الرواية، فالرواية السرد القصصي واضح من الشخصية نفسها، لكن بالفيلم هناك حذف لبعض الأحداث والمشاهد بشكل مختلف، شعرت بالبطل حينما يقتله الجوع، وقلتني معه!

في هذا الشهر استيقظ باكرًا وأنام باكرًا فقراءتي تكون صباحيّة لأنه وقت ذروتي، وعادةً لا آكل أول الصباح فأنتظر لأربعة أو خمس ساعات حتى آكل، فأنا أشعر بالجوع بداية الصباح وأشرب القهوة وأشرع في القراءة، لهذا شعرت بالآلم مع شعور بطلنا للحظات الجوع التي تمرّ بهِ.. لكن بالفيلم! يا رب السموات والأرض، كان مغرورًا جدًا ونعته كثيرًا! تعاطفت بشدة معه في الرواية لكن بالفيلم أود ضربه حقًا على تلك الفرص التي يرميها، وجهه الممثل مغرور على عكس ما تخيّلتهُ في الرواية، كنت اشعر ملامحه تقترب لوينستون، بطل ١٩٨٤!

لحظات الجوع لم تكن جيدة، لحظات الغضب جيدة، لحظات السخط عادّية..

فأحيانًا مع ملامح الممثل تتشكل القصة أكثر، أو على الأغلب لم يكن هناك أدوات كفاية حتى تنجح هذهِ القصة كفيلم، لكن كرواية أو كتاب، إنها مذهلة جدًا. بعيدًا عن التعدّي على الذات الألهية.

فلحظات الجوع كانت أقسى في الكتاب لهذا شعرت بالحزن الشديد معه، لكن بالفيلم… لا.

أتخيّل ماذا لو تمت إعادة صناعة هذا الفيلم بجودة ودقة فائقة! في سنة ٢٠٢٥! ستكون مذهلة بلا شك!

كانت تجربة الفيلم ستة من أصل عشرة.

ملاحظة شيّقة الفيلم بالأبيض والأسود يعني قديم من سنة ١٩٦٦، والكتاب تم صدوره وكتابته في عام ١٨٩٠!

مثلما الجوع لها فلسفة نفسية على المرء حتى في عقيدتنا لها معنى كبير، فقد قال رسولنا الكريم ﷺ: ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه يعني ما هناك وعاء ملأه شر أشد من ملء البطن خطره، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه يعني ينبغي للإنسان ألا يشبع كثيرًا، بل يجعل لنفسه نصيب، ولشرابه نصيب، ولأكله نصيب، فيكون ثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس حتى لا يتكلف، حتى لا يتعرض لأخطار الشبع، ولا بأس بالشبع ولا حرج، لكن كونه يخفف ولا يشبع يكون أسلم وأقل للخطر وأحسن عاقبة، فملء البطون فيه خطر كبير، والتخفيف فيه مصالح كثيرة.

ومثل الصيام، شهر رمضان المبارك، فيها منافع كثيرة. ولا يقتلنا أن نتوقف عن الأكل ١٥ - ١٦ ساعة ! فنجد فيها الكثير من حكمة ولو أن الغضب أحيانًا قد يتسبب في بعض اثارة المشكلات بين الناس. لكنه يحمل الكثير من الحكمة.

— مصدر من مجلة عالم الفكر :

قد ذكر الأمام أبو حامد الغزالي، أديموا قرع باب الجنّة بالجوع. وفي حديثًا آخر من أجاع بطنه عظمت فكرته وفطن قلبه. نور الحكمة الجوع… لا تشبعوا فتطفئوا نور الحكمة من قلوبكم.

بعضها قد يكون من التّصوف لكن المهم في هذا هي فكرة الجوع نفسها ومدى تأثير على جسد الإنسان وعقله. كما شهدناها في الرواية — فكلما اشتّد جوعه اشتد كبرياءه عليه وسرد كتابته وتهّل عليهِ الكلمات.

في كتاب مقدمة ابن خلدون كنت أطالعه بلهثة فاغرة لا تحتوي على الجدّية في الاستمرار بقراءته ووقتها كنت أمارس الصيام المتقطع لأنني اكتسبت وزنًا، فقررت بالصيام المتقطع مع ممارسة رياضة المشي والإكثار من ترطيب الجسم عن طريق الماء والمشروبات مثل الشاي الأخضر والقهوة، ولاحظت الفرق فعلًا في خلال أسبوعين واستمريت إلى أن وصلت أربعة أشهر تقريبًا وكافحت ووصلت لمرحلة إنني لا استطيع تقبل الأكل أصلًا. وفجأة في نهاية الشهر الرابع بدأت صحتي تتدهور، بدأت اشعر بالبرد الشديد في سائر جسدي، بدأت أشعر بالوهن، والغثيان المستمر حتى بعد شرب المشروبات، وطاقتي انخفضت بشكل هائل لتلك الحالة التي تجعلني غير قادرة على قراءة كتبي أو حتى ممارسة مهامي بشكل طبيعي. ثم حلفت علي ماما بأنني يجب أن أتوقف حتى لا تدهور صحتي أكثر من ذلك. وفعلًا توقفت ولكن في فترة التجربة كنت اقرأ مقدمة ابن خلدون.

وكان يتحدث بإسهاب عن الطعام والجوع في حياة المرء، ويجب عليه أن يقطع الأكل لفترات زمنية قصيرة يعني تقريبًا شهرين أو ثلاثة مثل تجربتي ويكتسب فيها ويتعلم الكثير من المهارات التي قد لا تستطيع تعلمها في عدم صيامك عن الطعام.

أتدري لماذا الجوع مهم؟

لأنهُ يملك حكمة عظيمة قد نجدها في ممارستنا الطبيعية، ولهذا أتم الله علينا الصيام ولو تأملنا قليلًا في النفس البشرية أثناء الجوع وقبل الجوع ووقت الجوع، لأنظرنا لتساؤلات عظيمة!

وهذهِ الرواية بلا شك قدمت هذهِ الفلسفية على تأثير الجوع في الإنسان. صحيح أن شخصيتنا معقدة جدًا ومضطربه، لكن دعونا نرى الجوانب الأخرى منها.

السرد القصصي كان رائع وبسيط الترجمة كانت جيدة، القصة بأكملها مُذهلة، تتركنني أفكر لساعات طويلة، ولو سأقدّم نصيحة لقارئ أفضّل أن تقرأ الرواية أولًا ثم تتوجه للفيلم، لأن الرواية دسمّة وستشهد تخبّط بطلنا واضطراباته اليومية عوضًا عن الفيلم. وبالمناسبة النهاية كانت مُلاءَمَة جدًا للقصة من بدايتها للنهايتها، وهذا ما قصدته في بداية التدوينة، حقًا تستحق القراءة.

ملاحظة مهمة: قد من الممكن أن تُسبب القصة الحزن والتعب والإرهاق النفسي والجهد، فإذا لا تحبذ هذا النوع من الكتب تنجب قراءته وأنصحك أن تكتفي بتدوينتي أو مراجعات القرّاء الآخرين.

هل ثمَْ حكمة في أن يكتب الإخفاق التام على كل محاولاتي التي أبادر إليها في جد وحماسة؟.

وأي شيء لا يتأثر بهِ الواحد إذا كان جائعًا.

— التقييم النهائي : ٨ من أصل ١٠ 🧆.

تعليقات

المشاركات الشائعة