أنَّ الجوع هو كل ذاته.
تقييم ومراجعة رواية الشَّرِه للمؤلفة البريطانية أ. ك. بلاكمور، عن ترجمة د. أحمد البكري وعن مراجعة د. محمد غنوم نشر المجلس الكويتي الوطني للثقافة والفنون
مرحبًا.. أنا عاجزة عن الكتابة، عاجزة عن التعبير، يائسة من ضعفي في وصف هذهِ الرواية الإبداعية!
معلومات قليلة، لكن أمامنا ثلاثة مئة صفحة، نستطيع البحث عنها في داخل القصة، لنخرج ببعض التربة وببعض الملح الممنوع، وبعض الإشاعات الأخلاقية في تلك القرية. التي وقع قدرها على أسم هذا الشاب الجائع النهم الذي لا يوقفه شيئًا حينما؛ يجوع.
نعم قارئي العزيز، إنه الجوع للمرة الثالثة. إنها لعنة هذهِ السنة.
هو طفلًا مسكين في جسد رجلًا كبير، إنه فتى جنوبي. يحمل اسم تاراري على القرية التي ولدّ بها في عام ١٧٧٢ م. رغم اسمه الغريب والمشؤوم إلا له اسماء متعددة، «الشَّرِه القادم من ليون»، «هرقل الحنجرة»، «الشَّرِه العظيم»، «الرجل الذي لا قعر له». «الوحش». يحتاج بعض الوقت لكي يصوغ القصة التي قد تبرر وجود رجلًا في بيته اسمه نوليت، إنه مسكين لأنه كل ما يكفيه هو إنه كان فضوليًا بشأن العالم وكل ما يحتويه، وأن هذا الفضول أفرز نوعًا من الحب. إنه لم يكن قاسيًا، بل صديقًا طيبًا، وشخصًا جائعًا. وتساؤلاته متكررة حول ماذا يحلم الناس في نومهم؟ مثل الأطفال؟ والصغار وحتى الضفادع والخيول. هو فقط يتسائل ليتعرف على الأشياء.
إنَّ ما يفكر فيه معظم الوقت هو الجوع. جوع الصباح وجوع المساء الذي يوقظه في الليل، الجوع الحلو، الجوع المر، جوع الظلام، جوع الضوء، جوع الماء، جوع النار. كيف يروضه، إذا لم يشبعه؟ كيف يلقاه كمخلوق حي؟ لن تفلح أيَّ ثورة في إصلاح تاراري. لو أسقطت الملوك والملكات في فمه المفتوح، لراقبته وهو يطلب المزيد.
إذا كان الجوع فرضه البطل على نفسه لكرامته وكبرياءه في القصة النرويجية، فتاراري لا يتوقف عن الأكل حتى ولو كان لحمًا بشريًا، إنه جائع إلا يكفي هذا الشعور لتفهم ماذا يعني أن يكون المرء جائعًا؟ هو يبكي لأنه جائع!
كان تاراري يشعر بالجوع دائمًا. كانت معدته متخمة وساقاه ضعيفتين، طالما عرف الجوع. لقد عرف الجوع طوال حياته، عرفه معرفة جيدة وطويلة. والجوع يعيش في كل بيت متهالك في القرية التي ولد فيها. فالجوع يتسلل إلى محل الشراب، وبتكئ على جدار الحديقة، ويلعب الجوع بالجماجم والعظام في الطرق الضيقة القذرة. والجوع في أصل للعدم. لقد عرف الجوع قبل أن يعرف الكلمة التي تعبر عنه، ذلك التشديد الغريب، ذلك الفراغ. ولكن هذا الجوع جديد عليه. يشعر به يسري في عظامه حتى النخاع. إنه يصيب بالعصبية والنشاط في وقت واحد. ما الذي يمكن أن يأكله، وأين يجده؟ أسوأ اللحظات، يتساءل إن كان بوسع الإنسان أن يأكل جزءًا من لحم جسمه. ألم نقرأ ذلك الحوار من قبل من بطلنا في قصة الجوع بنفسها؟ أن يأكل المرء لحم نفسهِ؟ إن الصبي تاراري، لا يشعر بالشبع إطلاقًا. ويومًا بعد يوم، تُشفى جراحه ويسترد قوته. شيء يائس، شيء وحشي، يشرق من أعماق المياه الزرقاء العذبة لعينيه. بطل الشَّرِه لا يعرف ماذا يعني الكرامة والكبرياء والخداع لكنه يعرف معنى شعور المرء حينما يجوع! حينما تضعف قوته وحينما يدور عقله بسبب الجوع! بينما نجد بطل الجوع، يميز الجوع لكنه يرفض الأكل دون الشرف؟ دون العمل دون الاجتهاد! لا لذة لطعام دون أن تكون مرتبطة بالكبرياء والكرامة.
تاراري، الذي لا يشبع، الجائع دائمًا؟
تُقربنا المؤلفة لمشاعر تاراري الحقيقة في شرهته للجوع، يخفض تاراري وجهه ويضعه في كمه مرة أخرى، بنهنهة جافة عميقة. هو على حق؛ فهي لا تفهمه، ولن يفهمه أحد أبدًا. لن يفهم أحد سر جوعه. إنَّ الجوع يغمر كل كيانه ويغمر العالم كله وكل شيء فيه، الأشياء التي يمكن أن تجعل تاراري سعيدًا؛ شروق الشمس، قطة صغيرة، دعاء كنائسي يتذكره، كل ذلك يجعل تاراري جائعًا عوضًا. لو أتفق العالم كله لن يفهم مشاعر جوعه المستمر حتى في لحظات الوجبات في فمه.
أنا أشعر بالجوع طوال الوقت. هذهِ هي حالتي.
رغم إنها تعيش على قصة سياسية فرنسية قديمة تاريخيّة حقيقة، تعود إلى القرن الثامن عشر وهو شخص لديه قدرة هائلة على إلتهام كل شيء. إلا إنها تبث منها رائحة اضطراب الشَّرِه المرضي. وعلى جسم فقير ماديًا وأخلاقيًا وعقليًا. جسم يعجز جلده على كسوته. إنها قريبة جدًا لتقديم نظرة ثاقبة مُخيفة على شخصية بمصابة بهذا الاضطراب النفسي. حينما يجوع يختلف كل شيء أمامه. نشهد تحوَّله الشخصي في سير القصة. من طفلًا فضوليًا إلى رجلً بالغًا يلتهم الأطفال.
الألم موجع. أسوأ من الجوع فعلًا.
يتموج السرد مع الكاتبة بأسلوب أدبي، هناك عدة رواة للقصة وترتبط الأحداث ونتعرف عليها أكثر من خلال يأس بطلنا ووصلوه إلى حافة الموت، ولأنه يحب القصص توقف أمام محطة الأخيرة ليترك روحه تصعد بسلام بعد رواية مجده العظيم، أمام الاخت بيرتوي، الراهبة الخائفة التي لا تعرف في جسدها إلا يديها حينما تدعي وقديمها حينما تتورم من ليلة العمل. فنأخذ الأحداث والقصة بأسهاب من رواة القصة من الأخت وقلقها إلى تاراري وصدقه. إلى الراوي وهو يخبرنا الحقيقة من خلف ظهر تاراري. وواحدة من تلك الشخصيات أو المتحدثين هي على لسان بطلنا المضطرب فنرى من خلال عيناه وعقله طريقة رؤيته للإشياء وإدراكه ومحاولة السعي في إن يبقى رجلًا يجالس الرجال والشباب ليتعلم منهم الرجولة.. ليحمي والدته!
وماذا عن حلمهِ هذا؟ هل تحقق؟
لديه رغبة حقيقة ومشتعلة في أن يذهب للمدينة ويعمل ويأتي بقوته، لكنه توَّهم بصداقة جديدة كاذبة خادعة، فخدعوه وانتهكوا منزله، وسرقوا كل حقوقهم المادّية، فأخذه الندم ينهش في عقله وقلبه، وأخذ القهر يتسلل في صدره لرؤية والدته في هذا المظهر.. إنه السبب. إنه الخداع. إنه براءته الساذجة. إنَّ تاراري لا يشعر بالخوف بصفة خاصة في تلك اللحظة، مع أنه يعلم أنه يجب أن يكون خائفًا. هو ليس خائفًا، ولكنه يتمنى أن ينضمّ إلى أمه، التي تئنّ بهدوء في فراشها. يتمنى أن يذهب إليها ويحتضنها.
إنها بلا شك لذيذة جدًا وطرّية وشهيّة و إبداعية، وأثق بالله إنها مميزة جدًا لقدرتها الهائلة على السرد الروائي والإبداعي الذي يأخذك لتشعر بالجوع ثانيةً مع تاراري، تعود ثقتي الكبيرة لله أولًا ثم لمختارات المجلس الوطني الكويتي للثقافة، أثق بهم كثيرًا وهذهِ الثقة التي في محلّها صدقًا. سعيدة بلقائي بالكاتبة أ.ك. بلاكميور، وأتمنى قراءة المزيد من حرفتها الإبداعية الأدبية ومن فنون الترجمة الثقافية والاختيارات المؤثرة من المجلس الكويتي الوطني للثقافة. شكرًا جدًا لهذهِ التحفة الإبداعية. شكرًا على الإختيار المميز والمُذهل.
مهما كثرت الفقرات في هذهِ التدوينة أجد عجزي يلوح لي خصوصًا مع حالتي الصحية في هذهِ الفترة، سأسمح لنفسي بقراءة هذهِ الرواية ثانيةً في عام ٢٠٢٥ م. بأذن الحي الذي لا يموت. لأنني لأ اشعر بأنني اكتفيت بالكتابة عنها، هي أعمق من أن اقرأها بشكل سطحي منهك بسبب تدهور صحتي ثانيةً، الله يجعلها تكفير لذنوبي. لو رأيت الغلاف أمامك صدفةً أرجوك إلتقطه واستمتع بقراءة هذهِ التحفة الإبداعية، تستحق القراءة فعلًا، رغم إنني أحببت وأعتدت على أغلفة المجلس القديمة. لكن تصميم مقبول.
أتمنى يا قارئي العزيز، أنني قد قدمت الرواية بشكل يليق بوقتك الثمين، وأنك استمتعت بها وتشجعت لقراءتها. هذا هو هدفي من تقديم المراجعات والنشر: تشجيع الأفراد على القراءة. شكرًا لوقتك 🫶🏽.
الحواس تميز، وإن كان القلب لا يميز ذلك.
أنَّ روح الإحسان هي شيء محمود.
إنَّ الله هو أعظم شافٍ للنفس المضطربة.
أنَّ النقود، مهما كانت قيمتها ضئيلة، فهي تجعل الناس في القرية يتصرفون بغرابة وبصخب وبحدة.
يعيد تشكيل نفسه في نسق الجمال الخائف، وهو ما عرفه تاراري منذ أن عرف أيّ شيء عن هذا العالم، ولكن الشيء الذي لم يأبه أحد بإخباره به هو أن عالمه الداخلي سوف يصير أعمق وأكثر تعقيدًا، ويوصله هذا الشعور إلى حالة من البهجة الشديدة التي تصل إلى حد الألم، وقد ملأه بالبهجة والتطلع إلى المستقبل.
لا أحد يريد أن يصبح بطلًا إلا إذا كان الأمر سهلًا.
أنك تتكلم كثيرًا لكي تخدع الناس. فهم عندما يستمعون لا يفكرون، وحينئذ يمكنك أن تفعل ما تشاء.
نتألم وحيدين. إننا عندما نعاني شيئًا ما فنحن كلنا وحيدون في معاناتنا، معاناة لا رجعة فيها.
في كل مرة أذهب فيها إلى محل القصاب، تصيبني الدهشة عندما لا أجد نفسي معلقًا هناك. — فرانسيس بيكون.
قد أكون تعلمت الحديث بهذهِ الرقة في وقت الفراغ الذي توفره لي حياة المتشردين.
يمكنك التظاهر بأنَّ هذا الشيء المحزن لم يحدث في حياتك من قبل. وبهذهِ الطريقة يحبك الناس أكثر.
إنَّ العقل هو الذي يقودنا لنأكل أشياء معينة ونرفض أشياء أخرى باشمئزاز. فالعقل هو العائق الوحيد الذي يجب أن تتغلب عليه.
بعض الرجال نسختان من الروح، وهذهِ النسخة الأكثر إظلامًا.
أنَّ كل رجل وامرأة هما إلى حد ما متشابهان فيما تحت الجلد، تحت اللحم. فقط هيكل من العظام إلى العظام. عظام أقصر أو أطول. هذا كل ما في الأمر، في نهاية المطاف.
ليس ثمة قلب ينبض في الأرضِ الباردة كي يدفئها بعد كل شيء هذهِ المساواة الافتراضية ما بعد الموت.
أن الإنسان يكتسب مكانة في المجتمع حسب استحقاقه وليس بسبب ثروته أو اسمه.
أنَّ كل الرجال، في جوهرهم، هم نوع واحد، وأنه يمكن مساعدتهم لكي يساعدوا أنفسهم.
الحب. الحب. إنه الحب، الذي يجعل الألم يمكن احتماله، والذي يعطي للوجود هدفًا.
— التقييم النهائي: ١٠ من أصل لحمة 🥩.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركني رأيك، لأنه يهمني.. الخانة مفتوحة لبحر كلماتك 💌