الفقراء، في بداية نُضْجهِ.

تقييم ومراجعة الفُقَراءُ للمؤلف الروسي فيودور دوستوفيسكي عن ترجمة د. سَامي الدّروبي ونشر دار التنوير 


يعود المرء لتقديم فرصةً ثانيةً ليرى بعينه ماذا يراه الآخرين؟

فهي هي أنا، أقدم فرصة جديدة للأدب الروسي من «دوستوفيسكي» وعبقريته، والمثير في الأمر هي أول أعماله التي أظهرت سماته الفنيّة من خلالها وأيضًا هي الرواية الأقرب التي شجّعت الفيلسوف النرويجي «كنوت هامسون» لكتابة قصة الجوع، التي أثّرت في حياتي بطريقة عجيبة، وحتى في قراءاتي. لهذا متشوقة جدًا لمعرفة الإلهام الذي، وَلَدّ الجوع.

يأست في الصفحات الأولى لأنني لا أحبذ أدب الرسائل أبدًا، ولأنها تتعبني وتجعلني اضطرب في شيء خاصٍ بي، كانت الرسائل تتكاثر ومَلَلَت... شعرت بأنني لم أتعرف على الشخصيات على نحو أعمق، فأنا أحب مواجهة ومقابلة شخصيات الرواية حتى لو شخصية غير مهمة في سيّر القصة، أحب لحظات التّعرف على الشخصيات لأنها تجعلني على مقربّة أكثر منهم، فأجدني صادقة في مشاعري معهم، وفي صدور الحكم عليهم، فدون التعرف إليهم لا أستطيع بناء شعوري معهم. أو حتى ضدهم، وسبق قد كتبت عن هذهِ النقطة في تدوينات سابقة في مناقشة بعض الكتب.

بعد صفحات الرسائل نتعمق في قصة العاشقة الصغيرة الذي يكتب لها «ماكار دييفوشكين» ويعبر لها بصراحة عن حبّهُ السخّي، وصدقهِ لها. وهي كذلك تكتب له عما يحدث لها في يومها، وتعبر له عن حُبّها له وإخلاصها. ونحن نندس بين الكلمات والسطور، وفي الحبر على الورق لنتعرف على مشاعرهما أكثر وأكثر… ثم نتنقل إلى معرفة عالم «فرفارا» الشقيّة التي أدركت متأخرًا بأنَّ والدها، لم يكن يحُبها، وكانَ يسعى كثيرًا في سدى دراستها الداخلية، ولا تزال مستوى لغتها الفرنسية ضعيفة، فكان يصبّ غضبه عليها هي خاصةً، ويراها أنها المذنبة الآثمة في هذهِ الأسرة رغم عدم فعلها على أيّ مصيبة، فقد كانت تتراكم الديون على والدها ويجعلها المسؤولة عن جميع أنواع الشقاء التي تحيقُ بالأسرة.

اللهم ارزقني قارئًا يدافع عني كما يدافع «ماكار» عن «راتازاييف» عن كتابته وأسلوبه وطريقته، في مخاطبة «فرفارا» دفاعًا عنه.

لذيذة، حزينة، مأساوية…

رغم هذهِ الكلمات التي تصف الفقراء إلا إنها نالت على إعجاب كبير مني! لم أتصور أن أحب أدب الرسائل بصورة جيدة، إنها أدب رسائل، وإنها مبنية على الخصوصية والمشاعر والتعبير الأدبي الأخلاقي إلا أن شخصية الرجل المحب المخلص كانت تسهب في استعراض مشكلات الأدب والقراءة والكُتَّاب في المجتمع! مثل أبرزها حينما يكتب الكاتب قصة أو رواية، ويكون هناك جزء كبير من الكاتب في بناء هذا العمل فيتضح للآخرين، وبهذا يكون قد عرض نفسه المؤلف بصورة أدبيّة تتطلب القراءة لفهمها. يعني مثلًا أنا حينما أكتب نصوصًا أدبيّة هي تولد من مخيلتي، وتبتعد كثيرًا عن شخصيتي، فأشهد الناس حينما يقرؤون لي بأنهم يشعرون إنني كتبت عن نفسي، وهذا أمر مزعج لكل كاتب فعلًا، وهي مشكلة، بارتباط أي فكرة في النص لتعود أصلها على كاتبها.

لم يغفل «دوستوفيسكي» عن موقفه في رواية "المعطف"، وأخذ شخصية «ماكار» في ابدأ رأيه، ففي بداية الكتاب كان قد كُتب عن الفقراء بأنها كانت صنيعة «دوستوفيسكي» بعد تأثيره برواية "المعطف"، التي تركت انطباعًا كبيرًا في الأدب الروسي، فنجد الفرق بين القصتين، في رواية "المعطف" البطل إنسان كان طموحه أن يحصل على معطف، وإذا ضاع هذا المعطف هوى إلى اليأس فالموت، بينما البطل الرجل في الفقراء هو يقتل نفسه من أجل الحب والتضحية والرحمة والإيثار، لهذا تحدث الرجل البطل عن الرواية لصديقته المُّخَلِّصَة «فرفارا» بلسان «دوستوفيسكي»، في موضوع الإستخفاف والأستهزاء في الفقر كما عرضها في رواية "المعطف".

الفقر مُخيف ومنهك لكنه لا يؤثر على الشرف وأخلاق المرء! هذا ما كان يقصده «دوستوفيسكي» في عرض عمله الأول مُعارضًا كاتب "المعطف" — «جوجول»، التي من المؤكد إنها كانت عكس ما توقعه، وأن الفقراء شرفاء مهما أنهكهم الجوع أو الفقر أو حتى سوء الحال! — ونرى هذا التخبط حتى في شخصية بطل الجوع ! 

ولأن كنوت هامسون، استلهم الجوع من الفقراء فلأبد من مناقشة فكرة استلهامه وكيف كانت جودة هذا الالهام وأسلوبه. لو اخترت بطل يشعرني بالجوع ويجعلني أكره الفقر لأخترت بطل الجوع! أبدع «هامسون» في كتابة بطل الجوع اكثر من أبطال الفقراء بكثير. إنه شخصية قوية جدًا جعلتني أعيش لحظات الجوع والإحباط واليأس والكبرياء سويًا على مدار قراءتي، تسلّط عليّ الاضطراب النفسي، أدخلني هامسون دائرة قلق مستمرة حتى أغلقت الغلاف الخلفي! وحينما قرأت الفقراء لم يقدم لي «ديستويفسكي» هذهِ الاضطرابات بل جعلني أغضب طيلة الوقت من شخصية الرجل وأسلوبه المستفز. ملل جدًا حينما يكون الرجل بطل وعاطفي في غير موضعه الصحيح.

على عكس ذلك فأنا أستمتعت حقًا بنقاشاتهما عن الكتب باختلاف مجدولين التي كانت تُكتب الرسائل بصورة شاعرية متكلفة، صحيح أن الرسائل هي التي تقوم ببناء الرواية والقصة سويًا إلا كانت تلتزم بحضور نقاشات الكتب والأدب بعيدًا عن أي ابتذال عاطفي كما مجدولين. وأحيانًا أشعر بأنَّ «ديستويفسكي» كتب هذهِ الرواية ليرد على «جوجول» فقط. 

إنه الفقر ببشاعته والجوع بألمه والإذلال في الأعين… حتى لو كان مُحبًّا ومخلصًا فلا أحد يتنازل عن حقوقه لنفسه مقابل شخصًا يحبه ولا يراه! هو أشبّه بحب الأشباح! قضى كل راتبه في تلبية إحتياجات صديقته المخلصة ثم تهوى بهما الأوضاع لحال لا يسر أبدًا! إنه يغضبني! ويقهرني… كيف للمرء أن يسمح لنفسه أن يعيش بطريقة كهذه؟ على الأقل لو تزوجها كان من الأفضل من الاختباء عن الآخرين وتقديم الكثير من التضحيات! الفقر مؤلم والجوع مستمر والقارئ غاضب! لهذا كرهت شخصية البطل وثقلت مشاعري وحتى تركيزي حينما اقرأ رسائله، أولًا أنا لا أعرفه معرفة جيدة، ثانيًا هو يتصرف بعاطفية مرهقة، ثالثًا لا يفكر بإتزان لا في نفسه ولا حتى في صديقته المخلصة! رابعًا جعلني قارئة غاضبة وهو حتى لا يحاول أن يجعلني أن أتعرف عليه وهذا مستفز جدًا… وكانَ «ديستويفسكي» استخدم عنصر الشخصية لتعبير فقط عن رأيه ولكن أن صح التعبير تحوّلت الشخصية إلى شخصية ساذجة غير منطقية! أمَّ «فارفارا» فكانت حقًا يمامة مسكينة، تعاطفت معها كثيرًا وتمنيت لو إنها تتزوج من شاب آخر غير هذا الكهل الغير مثقف! آه قارئي إنه يجلب العار حقًا. لم اقرأ لأختار أن احتقر شخصية رئيسية مثل هذهِ!

كتبت الفقرة قبل قراءة الصفحات الأخيرة، وخرجت بتلبية أمنيتي بأمان وسلام.

لكن مع ذلك تمنيت أن تكون التساؤلات المتكررة أن تنبض من الشخصية النسائية التي قامت بدورها «فرفارا»، فقد كانت عقلانية أكثر من «ماكار». كان عاطفي جدًا مع ذلك تساؤلاته متعددة في شأن الفقر والجوع والكتابة والرواية، وكان تساؤلات شيّقة، مثلما ذكر عن الفقراء بقولهِ أنَّ الفقراء أصحاب نزوات وبدوات. الطبيعة أرادت لهم ذلك. الفقير إنسان متشدد كثير الشك والحذر. له طريقة خاصة في رؤية العالم، فهو يلتفت نحو كل عابر سبيل، ويلقي على ما حوله من نظرات قلقة وجلى، ويسترق السمع إلى كل كلمة، متسائلًا: أتراهم يتكلمون عنه؟ أتراهم يطلقون ملاحظة من الملاحظات عن مشيته المتعثرة المضحكة؟ أتراهم أرادوا أن يقرأوا ما في نفسه ساخرين؟. إنها رسالة لصديقته المخلصة لكنها تحمل تساؤلات كثيرة للقارئ، اقرأ عن هذهِ العلاقة الخفيّة الفقيرة المأساوية لكنني لن أتركك دون أن تفكر بشيء معين من أفكار «ماكار» المتكررة وتساؤلاته المُحيرة.

إجابة بداية التدوينة. في الحقيقة سأقرأ أيّ شيء يسقط في يدي، حتى لو كانت كتب «دوستوفيسكي» سأستمر بقراءة أعماله حتى أجد غايتي فيه، ولو كانت هناك أعمال تقترحها عليَّ لقرائتها ومناقشتها فخانت التعليقات مُتاحة للاقتراحات وللآراء، سأسعد بذلك 📨 — ولا تنسى مشاركة التدوينة مع الأصدقاء 🫂

لقد ولدنا جمعيًا من معطف جوجول.

إنه ليحزن قلب المرء أن يدلف إلى الشيخوخة.

لا شك أنَّ عدم احترامه لأباه هو أكبر عيب فيه.

إنَّ القراءة تفجر في نفسي أفكارًا ومشاعر تزدحم الآن في قلبي هادرةً صاخبة.

أجمل لحظات سعادتي لابد أن يخالطها دائمًا شيء من الحزن.

أن من واجب الإنسان أن لا يكون عالة على أحد في هذا العالم.

الأدب شيء عظيم يا فارنكا، شيء جميل، عرفت هذا أول أمس. وهو شيء عميق، إنه يثبت القلب، ويثقّف العقل، وما إلى ذلك.

أنني كبرت ناسيًا أن أحمل معي عقلي.

التفتي إلى القراءة… سآتيك بكتب.

أنَّ ثمة كتبًا لا شك أنها عظيمة، ولكن المرء منا يستصعب فهمها مهما تكن قيمتها، ومهما بذل في سبيل ذلك من جهد، ولأنها مسرفة في العمق، مسرفة في الذكاء. كان ذهني غليظًا.

إنّ الحياة الاجتماعية تعتمد على مظاهر السلطة التي يصطنعها بعضنا تجاه بعض، وعلى الطريقة التي يتخاطب بها بعضنا مع بعض لومًا وتأنيبًا. ومن دون هذه الاحتياطات لا يمكن أن يوجد العالم، ولا يمكن أن يقوم نظام في أيّ مكان.


— التقييم النهائي : ٧ من أصل رسائل 📬.

تعليقات

المشاركات الشائعة