رواية فرنسية كلاسيكيَّة.
تقييم ومراجعة رواية بائعة الخبز — للمؤلف الفرنسي كزافييه دو مونتبان ترجمة: يوسف عطا الطريفي وعن دار الأهلية
أحنُّ لتلك المرحلة من حياتي التي أعاشر فيها كتابًا وقتًا طويلًا، تلك المرحلة التي اقرأ فيها وأعيش لحظات الرواية، أضجر منّها وأفرح حينما اقرأها، تسعدني أحداثها ثم ترهبني! وساعةً تحزنني، سنعيش الغربة والترّمل مع هذهِ الشابة الجميلة الأرملة، التي في عاتقها الكثير لترويه، من طفلها جورج الشاب الصغير حتى طفلتها التي تبلغ عامًا واحدًا، وما حكاية هذا العاشق؟ الذي يُثير الريبة في كل مشهد يظهر به، هل هو يصدق بما ينطقه؟ وما يخيفه في صدره؟ أمَّ إنه مُحبًّا صادقًا … ما الذي يدفعه لحب أرملة مسكينة لا حول ولا قوة لها، وما حيلتها إلا مطالعة هاتين الطفلين بعينين حزينة وسهيرة، وقلقة عليهما، تحمل جورج في طيَّات عملها الشاق -الذي لا يناسب إلا الرجال- وطفلتها الصغيرة تُرضع في قرية بعيدة عنها.
يشتكون العُمّال من النفط في المصنع التي تضعه الحارسة الشابة الأرملة مع طفلها جورج، فتضجر من تكرار أمين الصندوق بهذا الشأن أن لا تجلب النفط للمصنع لعدم حدوث الحرائق والخسائر والوفيات والأضرار التي قد تلحق بها، لكنها تكتفي بقول إنها ستغادر هذا المصنع المشؤوم الذي يدسون بأقدامهم على دماء زوجها الذي توفى فيه بحادثة عن طريق الخطأ. تكرر تذمرها ومشاعرها التي تشعر بها في أثناء عملها، وفي حياتها بأكملها وفي عين طفلها.
آسفة على المقاطعة، تظن إنني حرقت الأحداث عليك صحيح؟
لا تقلق، هذا ليس إلا منعطف بسيط أخذناه، فالأحداث القادمة ستكون أطول وأكثف.
نسيَّر بخوف في نفق حياة حنّه، نرتجف لخوفها ونقلق معها على حياتها وحياة طفليها، وهناك بناء وهمي على الأحداث المتراكمة التي تحدث في المصنع ضد هذهِ الأرملة، فتظهر لنا الصورة واضحة، هناك مدير المصنع القلق بشأنها ويحاول تعويضها عن حادث زوجها، وهناك عُمّال لا يرغبون بالعمل معها نظرًا لأنها تثير الشكوك ولا تلتزم بالنظام الصارم الذي يضعه المدير، وهناك في الزاوية المطمئنة؛ رجلًا عاشقًا. يظهر من الظلام، يدق على الحديد بكلامه الجميل، يُغريها بمستقبل آمن. جسد غير عاري، أطفالًا شبع من الطعام، نيامًا مطمئنين. هي نفسها الحياة التي اختفت من لحظة صعود روح زوجها. وأمامها طريقين أمَّ أن تكون عزباء أرملة مع أبناء وصعوبة في العيش والأكل والكسوة، أو زوجة في منزل مع أطفالها دافئيين في رعاية رجل عاشق والتي تظهر في عقلها إنها خيانة!
آخ، أنتظرت طويلًا حتى أستقبل بائعة الخبز بكل طاقة وحُب، وسرور، قدمت لها شهرًا كاملًا لتمنحي حياة أدبية أخرى كلاسيكية، تعمدّت أن لا تكون مزدحمة بكتبٍ أخرى، أريد أنا أجلس أنا وهي فقط في مجلسًا واسعًا يضمنا مفرشٍ أحمر مُثيّر، أشتّم رائحة الخبز، فاستنشاقه بقوة، مع ملمسهِ الطري والحار… نسهب في جلسة حارّة فرنسية، مع السيدة حنّة. وطفليها جورج بحِصانه الخشبي، ورضيعتها التي تُرضع في القرية. مع هفوات متكررة وصدف غير مألوفة تضعنا على حافة السفر إلى الهند. لكنا نستقر في باريس في معظم الأحداث.
يبدأ كل شيء من لحظة الحداد. باللباس الأسود وطفلها ذو الثلاثة أعوام لا يدرك شيئًا مما فقد بعد. كانت الساعة الثالثة بعد الظهر. إلى أن انتهت بعد مدة في الساعة الحادية عشر مساءًا ! بعدما التهمت إلسنة النيران المصنع بأكمله وتحول إلى رماد! وبطلتنا تقطع أنفاسها في المشي هروبًا مما حدث مع طفلها جورج ونسينا، حصانهِ الخشبي في يده. الذي يرمز في النهاية إلى رمزًا مهمًا للغاية. تنام بطلتنا على العشب لأنها تشعر بالبرد ومرهقة وخايفة، لأنها متهمة بجريمة قتل مدير المصنع "لابيرو" وإضرام النار! وماذا عن عاشقنا المحب؟ ما رأيه في هذا كله؟ .. وما موقفه؟
مستمتعة جدًا بالبطيء الشديد الذي أمرّ فيه مع هذهِ الرواية، أمامي ٣١ يومًا لأتمدد في الكتابة والقراءة واستشعار كل اللحظات الحيَّة في القصة. أمامنا تحديات كلاسيكية. وتحديات قد تخيب ظننا. وقفزات متكررة، شخصيات أنانية وتجارب إنسانية. وبعض الغرور من الكاتب نفسه. ولا نختلف أن الشخصيات محدودة الأبعاد ولا تأثر كثيرًا في القصة إلا عن طريق المصادفات المتكررة.
من فرنسا، إلى نيوريوك، كلما سافرنا بعيدًا في رحلات متعددة نجدنا نعود إلى أميركا، أمَّ لولادات جديدة، أو خسارات صغيرة، أو حتى تحديات كبيرة، أرض الأحلام، أرض الفرص الكبيرة، أرض المستقبل.
كنت مستمتعة بالقراءة بنسبة كبيرة، ولكن بعد الربع الأول تحوَّلت الرواية لمسار آخر تمامًا عما بدأناه في الأحداث الأولى، كأنها بدأت بوليسية ثم تحولت بريطانية نزعت جلدتها الفرنسية، صرت أشعر إنني اقرأ رواية بريطانية، وسرعة الأحداث مخيفة جدًا! مشهد الحوار بين -أوفيد- والشخصية الثانية -جاك-، كان مشهد جيد للبناء عليه في الحبكة، مناسب جدًا وتوقعت أن يكون أطول بكثير، نظرًا لأنه حدثًا قد يُغيَّر في مجرى القصة. لكنه كانَ مشهدًا باردًا جدًا. وتطويه بعد ذلك عدَّة مشاهد أخرى، فللأسف أخذت اعتاد على هذهِ المشكلة وتقبلتها بصدر رحب.
سرعة الأحداث عجيبة ومملة بنفس الوقت، ولا أدري بعد هل سيكون هناك عالمًا آخر من أحداث المراهقين الذين كبروا؟ بما إن المؤلف قطع كل الأحداث بصورة سريعة؟ .. والشخصيات كثيرة وتجمعها صدف متكررة! جعلتني أشعر بأنه عالم مثالي جدًا وأن فرنسا بالفعل مثالية وصغيرة كل الصدف تقع فيها، يعني علاقات الأطفال الذين كبروا تشعبت كثيرًا وتفككت بنفس الوقت. مما أدى إلى نفوري من فهم الشخصيات وعلاقاتهم المتداخلة في بعضها مع تغيَّر لبعض أسماء الشخصيات.
المصادفات هنا قد تقتل كل شيء فعلًا! وتصديق الشخصيات وإنعدام حضورهم يقتل متعة السيطرة على الذات أيضًا! لم يجتهد الكاتب في كتابة الشخصيات أبدًا فقد كان يعتمد على الأحداث المرتبطة والمصادفات على عكس الشخصيات التي وكأنها أدوات غير مهمة لسيَّر القصة، فالشخصيات هنا لا يعتمد عليها، ولا تظهر دوافعها الخفيَّة أو تطورها الطبيعي، رغم أنَّ الشخصيات عناصر قوية يستطيع الكاتب البناء عليها، لخلق تجربة عميقة ومعقدة في الرواية، وأقرب مثال على شخصيات عميقة ومعقدة هي رواية مرتفعات وذرينج. لكن الكاتب قرر غير ذلك.
كنت أحب مسلسل مذكرات مصاص دماء، لكنني توقفت عن مشاهدته بسبب أن الشخصيات تتداخل في بعضها بشكل منفر. وللأسف بائعة الخبز تفعل نفس الشيء! ولكنني لا أستطيع مغادرة القراءة لمجرد إنها تشبه المسلسل أو حتى إنها تختلط شخصياتها في بعضهم. فعل القراءة يختلف فعلًا عن فعل المشاهدة.
أفضّل التركيز على تطور حياة شخصيتنا الرئيسة مثل حنَّة وأطفالها والعاشق، وبعض الشخصيات الثانوية التي تقوم بدورها في القصة، لكن إذ كانت بطلتنا بعيدة كل البعد عننا، فنحن نخوض في تفاصيل الذين كبروا ولم نصل للعدل بعد! ولم نصل لتطور الشخصيات بعد ولم تنرسم أبعادهم بشكل صحيح، لم تهمني المصادفات كثيرًا ولو احترمنا رحلة هذهِ القصة العريقة، فالشخصيات عنصر قوي وتمنيت لو إنه أسهب أكثر في هذا الموضوع.
لنهدأ قليلًا، كتبت الرواية في عام ١٨٨٩، فهناك زمنًا طويلًا جدًا، يعني ١٣٦ عامًا! لنقل فقط إنها متعة طفوليّة وساذجة نستمتع بها ونقَّدر أن الأدب ترجََل لمسافات طويلة ليصل لنا كما قلت، ولنشهد للمترجم بترجمته المتوازنة وحرصه على جودتها، استمتعت جدًا بالترجمة ووضحها واختيار الألفاظ المناسبة للنص، فلم اشعر بركاكة النص أو حتى تعقيد المعنى، فكان المترجم له فضل بعد الله في جماليّة النص، تشعر بالدفء لكن إذ دققت بشدة على القصة، فألزم العودة إلى جماليّة النص.
في فترة من قراءاتي السابقة رغبت بشدة أن تأخذني رواية لأحداث متسلسلة لا تنتهي! تجرفني بعيدًا عن حياتي الواقعية، شاهدت العديد من فيديوهات القرّاء الذين يتأثرون اثناء قراءتهم، عاطفيًا أو حتى نفسيًا، أو تفاعليًا مع الأحداث! أريد ذلك الشعور بالفعل! فالروايات السابقة لم تعطيني هذا الشعور! أو كانت الأحداث عادَّية جدًا. وجدتني اليوم أتفاعل بحرقة على تفاصيل بائعة الخبز ثم أدركت إنني أخيرًا وصلت لتلك الأمنية التي تمنيتها لفترة طويلة!
يفصلنا أسبوعين فقط على انتهاء العالم الفرنسي المثالي، والأحداث لا زالت كثيفة. وأخيرًا انتهيت من بائعة الخبز، استمتعت بالفعل ونقدت الكثير من الأحداث وشتمتهم في سرًّي أحيانًا، ممتعة الكتب الكثيفة ولم أشعر إنني نسيت أي تفاصيل قد ذكرها المؤلف سابقًا.
ليس غدًا ببعيد.
إنَّ من يصبر يجب أن يعيش.
— التقييم النهائي: ٧ من أصل ١٠ 🥖.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركني رأيك، لأنه يهمني.. الخانة مفتوحة لبحر كلماتك 💌