في الأفق العربي بلا حدود 🇪🇬

تقييم ومراجعة رواية شقَّة الحريَّة للشاعر والأديب والكاتب والسفير الدبلوماسي والوزير السعودي غازي عبدالرحمن القصيبي -رحمه الله-، عن دار نشر رياض الريس للكتب والنشر. الطبعة الخامسة ١٩٩٩

إلتقطتها في كافية إيطالي في الرياض 🤳🏽

أنتظرتُ طويلًا لأقرأ أيّ كتاب لغازي القصيبي، فهو الكاتب الذي يشهد له القرّأ السعوديين بأنهم انغمسوا في لذّة الأدبِ معه. فأريد أن أخوض هذه التجربة، فالقراءة كلها تجربة وحياة أخرى نعيشها من نسيج مؤلفها، وأن كانت حقيقية أو غير ذلك أو حتى مؤلمة فعلى الأقل قد منحنا الكاتب فرصة لنكتشف مواطن أخرى في عوالم مختلفة ونختبر شعورنا فيها.

غلاف الكتاب يوحي بلمسة من الثمانينات لكنها خرجت بالتسعينات، أشعر بالسعادة حقًا. النسخة قديمة من التسعينات، الخط، ملمس الورق، الطباعة، الحوارات، اللهجة المصرية في طيّات الفصحى، الشغب والثورات التي تشغل الطلاب وتثّور فيهم حبّ الأمة العربية، ضد الأنجليز والفرنساوين، وحتى المخبرين الألمان. التيارات الفكرية التي يصدرونها في صالون الشقة وكأنها حقيقة مطلقة وستبث الآن وتذيع بأنهم ثائرين ويريدون الحق، وحتى بينما تنهار بعض قراراتهم واختياراتهم وكأنه مجلس الشورى لا صالون شباب جامعيين ثائرين ثم يدفعون قيمة هذه الشقة نهاية كل شهر، ويذهبون إلى محاضراتهم بأرواح مشتعلة متجددة وطاقتها عالية. 

لطالما كتبتُ عن ثورة الشباب في فترة الجامعة، ولاحظت مدى تأثير ذلك الشيء في الأدب، وأظن إنها لفتة جيدة لأن الجامعة مليئة بالتأثيرات السلبية والإيجابية نحو التيارات الفكرية والثقافية. ولأنني لم يسبق لي الدراسة في الجامعة فوجدت ذلك مثيرًا للاهتمام جدًا، وتخيّلتُ بالفعل لو إنني درستُ في الجامعة هل سأكون فتاة ثائرة بالفعل أدبيًا أو سياسيًا أو حتى اقتصاديًا؟ وماذا ستكون نتيجة هذه الثورة؟.

المميز أيضًا على صعيد الشخصي إنها تذكرني برائحة تحملها من سنة ٢٠١٩. رائحة تذكرني بنفسي حينما أغرقتها في الروايات العشوائية. توحي بأنها مصرية بالفعل وتتظاهر أن كاتبها سعودي، وتجهل ديرتها البحرينية، فاللهجة المصرية تغتصب الحوارات وتظهر جماليتها في فعلها لتبرز ذلك المزيج المذهل بين الفصحى والعاميّة المصريّة المثيرة. وهذا يلّفتني بشدة وغير اللهجة المصرية لا أجد الإثارة في غير ذلك.

شباب في مقتبل العمر، يسافرون للدراسة، ويتطلعون لمستقبل مشرق، نحو الدرجات العالية، والجميلات، والشقة، وأفكارهم الثقافية، واختلاف نظرياتهم نحو جمال عبدالناصر، قائد الثورات، حب جماهيري ونصر ومقاتلة في جبهة العدو!
ليس العدو فقط، بل حتى في ساحة الجامعة من مختلف التخصصات، وخلافات وتحديات عشقيّة توضع بين طرفين. وتنفصل من طرف آخر. سواء كانت من لذةً أو حتى تطرفًا سياسيًا أو بعدًا فكريًا، تنجو منها في كلّ وقت.

إكتشفت إنه مرّ وقتًا طويلًا على شعوري بأنني أرتبط مع الشخصيات وأغضب معهم وعليهم، ولا تحتسب تجربة أن ينتهي معنا، لأنها جعلتني على نار الغضب. أكتشفتُ أنه شعور رائع ومذهل يجعلك تنسى كل شيء مقابل أن تعرف ماذا سيحدث لهم، وكان حدثًا من زمانً بعيد وشككت إنني تقدمتُ فالسن فلم تعيد تثيرني وتمتعني هذه اللحظات، ولكنني وجدتها في صفحات القصيبي وكانت من أمتع اللحظات! سعدتُ إنني غرقتُ معهم كثيرًا ونسيتُ إنني اقرأ وأخذت أعبر بصراحة عن مشاعري سواء الحزينة أو الغاضبة أو حتى حينما أريد محاورتهم عن الطائفية! هذهِ أول تجربة أخوضها مع غازي القصيبي، لكن أظن إنها لن تكون الأخيرة، لديه تلك الكتابة السحرّية التي تعودتُ عليها في سنواتي الأولى في القراءة حينما كنتُ أحبو.

لذّة ساحرة ومذهلة، في حقبة الستينيات وفورة الشباب وتصاعد المظاهرات، نحو الأمة العربية. مشحونة سياسيًا وفكريًا نحو توحيد الأمة العربية، ملمّة بالتاريخ بصورة رائعة، محسنّة لصور المؤثرين، كان هناك تحذيرًا أن الرواية من نسج الخيَّال لكن لا أظن ذلك، فيها أرواح حقيقية تبعث من خلال الصفحات! وكأنني أشاهد عملًا سينيمًا ليست لمجرد القراءة نحو حقبة كاملة! ووجهات نظر مختلفة من كل صوب، وكأنها تشرح الواقع المرير بالنسبة لشباب يستطيعون استنتاج هذه الظواهر التي تحدث وهذا أمر مثير جدًا.

لأبد أن ترتبط مع الشخصيات بصورةً ما، أم إنه عصبي متشدد أو متدين، أو حتى مثقف يطبق كل ما يقرأه وكل ما يثير تفكيره، أو حتى أدبيًا متعلق بالأدب. اقتربت من شخصية يعقوب نظرًا لأنه مفكرًا ومثقفًا لكنه ينزلق مني مقعدي نحوه ببطء، حينما إعتنق بلمحة عن موضوع الوجودية، فأخذتُ أشتمه وتمنيت محاورته لأدراك الصواب. ثم اكتشفت إنني شددت أوتاري معهم! منحني غازي هذهِ التجربة التي جعلتني أرتبط معهم وأجلس في صالون شقة الحرَّية بلوحة القارئة فقط. وهذهِ التجربة رائعة، لأنك تتفاعل بقوة في كل موضوع ثقافي يطرحونه وكأنها مشحونة جدًا بكل التيارات الفكرية! وهذا ما يجعلها رواية تلمع بالفعل ومسيطرة على جوانب كثيرة لا تجعلك تشعر بالملل نحو حياتهم وتشويقهم لكل ما يفعلونه ويفكرون به!

هم شبابًا جامعييًا لكنهم جامحين في تفكيرهم وطموحهم، لا يتحاورون بسذاجة وسطحية بل يطرحون مواضيعًا سياسية حتى مع فتيات الهوى! شيئًا قد لا تتصوره حتى في دور السينما، أن يقوم حوارً سياسيًا واجتماعيًا مع بائعة هوى التي تواجدت للمال والمتعة فقط! تتخيل معهم المشهد في كل غرفة اختبئوا فيها، كل غرفة تشرح شخصية الشاب. المتعلق بجمال عبدالناصر، المعجب بالفنان. يعقوب الذي إلتقط قلبي، كان يُعلق صورة لكارل ماركس الاقتصادي المشهور!، وعبدالكريم الذي أخذ بتحقيق لمعرفة لماذا فتاة تعمل كهذا؟ وترك ميوله يأخذ السبيل، قاسم الذي معجب بصورة آيزنهاور، وانصدم من رؤية الجرأة في جسدها، يرغب بعذراء خجلانة "تتكسف". فؤاد الذي شتمته وكرهته من لحظة دخوله لمصر، وهنا ازداد كرهي له بعد ما علق عن موطني، هو الذي يعلق صورة جمال عبد الناصر ويتحاور مع الفتاة حوارًا سياسيًا. 

بالرغم من إنهم شبابًا في مقتبل العمر فاترين إلا انهم يمارسون طريقة المفكرين، ورؤساء الحكومات، وأحيانًا قضاة في حل مسائل بعضهم وإدناءة أحدهم. أدركت لحظة تمسكي بالرواية حينما تجاوزت محاضرتي الأولى لأتفرغ في السيارة في المواقف السفليّة أخلع نعليي -عزكم الله- ثم أتكور كالربيانة وأشرع في القراءة، حينها مدى تأثير غازي القصيبي! وتأكدت أنني لن أخوض لذة القراءة من سنين طويلة! لذة تجعلني أتجاوز مسؤولياتي لاحضو بوقت قليل معها، مثلما فعلت حينما ترجلت السيارة مغادرة محاضرتي لأجل صفحات قليلة.

هناك نمط واضحًا في سير القصة إلا إنه لم يجعلني أشعر بالملل، قد جمع القصيبي أكثر من زاوية في الرواية مما أدى إلى أن تكون مدهشة في كل جانب، سواء كان الثقافي أو السياسي الحامّي أو الفكري، أو حتى رعبًا من ذكر الأرواح. نجح فعلًا القصيبي في إثارة الرواية بشكل جيد، نحو القصة، الشخصيات، النقاط التي تكرر بصورة مختلفة في مرة وأقصد بذلك نحو ارتباط الشخصيات بكل مرة موضوعًا جديدًا دون تكليل القارئ ولا حتى إفساد المتعة في معرفة المزيد وفي شغفهم المتزايد نحو كل شيء. 

حينما كتبت أنها تحمل تيارات سياسية فكرية وثقافية واجتماعية واقتصادية وقانونية مؤخرًا لم أقتصر على ذلك فقط من المنظور السطحي. بل الرواية تعرض قضاياها في العمق وتطوره فكريًا واجتماعيًا، فلا يقتصر التطرف أو الميل إلى جانبًا واحدًا فقط. وإذا كنت تبحث عن عدة مصطلحات أيدولوجية وفكرية وثقافية فشقة الحرَّية قدمت ذلك. وهذا ما قصدته. أنها رواية شموليّة.

إنها خيّالية بزعم التحذير في بداية الرواية، إلا إنني أشعر أن نصفها من أراء كاتبها، فهي محنكة ومحكمة في طرح الأراء بأسلوب حواري بالفعل! شككتُ في أكثر من موضع أن كاتبها هذا ما يفكر به حقًا. وقد سقط حوارًا بين إحدى الشخصيتين بخصوص كتابة قصة قصيرة وقعت، فيقول فؤاد: أن الأدب الذي ينقل الواقع ليس أدبًا؟ — ويجيبه عبدالرؤوف -كاتب القصة الذي يتناقشان عنها-: أن الأدب الذي يفقد كلّ صلة بالواقع يصبح مجرد هلوسة. لم تكن محاولات من اجتهادي الشخصي لتفكيك الرواية لكنني وضعتها تعقيبًا على وضعي لكلمة اقتباس فوق الصفحة.

لم أحبذ فؤاد منذ لقاءنا الأولى، ولا أدري لماذا! فشخصيته لا تثيرني على الإطلاق على عكس شخصية يعقوب. لكن فواصل القصص القصيرة التي يكتبها كانت تعجبني ورأي عبدالرؤوف في كل قصة كان مهم رغم أن هذه المحطة قصيرة، فقط عرض قصة فؤاد ثم مشاركتها مع عبدالرؤوف ثم تنتهي هذه المشاركة. وكل مرة تكتشف شخصيًا في قصص فؤاد الذي تميل إلى عرض لمحات من حياته. رغم أن واحدًا منهم ذكر عدم تدخل الأدب بحياة كاتبها، إلا أنه يذكر المواقف في لمحات من القصة.

من غير المعقول كيف تدارك القصيبي سيرة جيل كامل في رواية تضم أربعة مئة صفحة فقط! كلما قرأت كلما أنبهرت من الأفكار السياسية، لم افتح كتابًا مبني على رواية ويحمل كل هذه الطيّات السياسية والجدالات الفكرية بهذه الصورة! مذهلة ومشوقة وتخطف الأنفاس بالفعل..

انتقلت شقة الحرية في مصر إلى البحرين وتحوَّلت إلى فيلا الحرية، واجتمعا فيها الشباب بحضور كبير من الوافدين الأجانب الذين يسكنون في المنطقة السكنية التي أشرف عليها قاسم. كبر في عيني اهتمامه بالتجارة ثم حاول والده استغلال هذه الفرصة لأعطاه مشروعًا يشرف عليه، ومن بعد عاد للسقوط ثانيةً حينما تعرف على كافة فتيات السكن ثم أنقضت إجازة الصيف، وعادوا إلى مصر، إلى شقة الحرية.

التيارات الفكرية والثقافية التي تمرّ بحلوها ومرها، وجدت وخلقت في هذه الرواية، استمتعت في أحداثها وسردها وحتى سرعتها الجذّابة، كنتُ فقط أستعجل يومي حتى أصل للصفحات، وأقلّبها بحماسة وحرارة وتشوّق معهما. أحببت أن القصيبي جعل القصة مشوّقة إلى هذا الحد، وفكرة إدخال الشخصيات الأدبية والسياسية المعروفة والمشهورة في الحوارات والمشاهد بالصورة التي تخدم الرواية نفسها ومشاهدها، فقد حفز طه حسين الشباب، وحفزهم نجيب محفوظ بصورة الإنسانية للتواضع، خدمت الشخصيات الصفات الحسنة في الرواية. وهذهِ نقطة جيدة في بناء الرواية كاملة لإضافة الطابع الواقعي نحو تخصصاتهم المختلفة التي تخدم القصة.

عبَّرت برأيي بصراحة نحو شخصية فؤاد وإنها لا تعجبني، حتى مع نساءه، فذوقهِ عجيب وغريب، ودائمًا ثائرات ومولعات سياسيًا، ويترك نفسه تحت "صاحب الست"… وتجاربه النسائيه وشخصيته هي السبب الأكبر التي جعلتني اقلل اهتمامي نحوه. لكن حينما تعرّف على ليلى! أسابق الأيام لأعرف كيف ليلى شخصية مثيرة لتلك الدرجة؟ رغم إنها ثائرة سياسية! لم تفرق بشدة عن اختياراته السابقة! وحتى أنه يجعلها تقوده بسهولة.. الجانب المثير شخصيتها على عكس شخصية فؤاد المملة. ونتفاجأ بنهاية صاعقة غامضة تجسَّد فكرة مبسّطة عن «متلازمة ستوكهولم».

ممتنة حقًا لهذا الفترة التي عشتها مع شباب شقة الحريّة، والعياذ بالله. كانت من أسعد لحظاتي، قضيت أسبوعين لا أذهب لمحاضرتي فقط حتى أنطوي على كرسي مكتبي وأضمَّ الصفحات على صدري وأتفاعل معهما بحرارة، زعلت من زعلهم، وغضبت عليهم وطبطبت عليهم، وحتى إنني ضحكت معهم وضحكت عليهم! تطرفت لمواقفهم السياسية وانبهرت في نقاشاتهم النثرّية. حينما كتب القصيبي، أظن إنه نوى صيد فئة الشباب في فترة الجامعة، الفترة التي قرأت عنها في كل الكتب، فترة الاكتشاف والبحث، وإسقاط الذات تحت المجهر، والتعصب السياسي والموقف الثقافي، فقد أبحر بحرية خياليّة عن نسيج وطرف واحد من تفكير هذه الفئة وهذه الفترة تحديدًا. وقد نجح بالفعل فيها حيث أوضح كل موقف شخصية وتفكيرها وأسلوبها ونمطها المعين، سواء الثقافي أو الفكري أو السياسي رغم الجوهر واحد، بحريني.

أنتهينا. كما انتهت مرحلة الشباب الجامعية، غادروا القاهرة ونحن نغادرهم، وكأننا كنا في القاهرة أصلًا معهم. ذهبوا كلهم لمستقبل آخر لا تكون فيه مدينة اسمها "القاهرة". وداعًا حارًّا وألمًا جميل، لأنها نهاية مذهلة كما بدايتها، أفتتحت بحرارة ثم أُغلقت بهدوء وببرود. وكأنها علاقة قوية اشتعلت ثم انطفأت، شكرًا لهذه التحفة الفنيّة. شكرًا للأرواح التي استمتعت معها بالفعل. شكرًا لكل زخم الأفكار الثقافية والسياسية. 

 لا شيء أسوأ من أن يموت المرء مجنونًا. لا شيء!

— علماء يتغيّر إسلامهم مع مواقف الدولة السياسية.

—  أن الفاصل بين عالم العقل وعالم الجنون خيط رقيق، عرضة للانقطاع في أيّ لحظة.

—  قالوا بأنَّ اللؤلؤ البرّاقْ، 
ينبتُ في محّاره، 
من دمعة المطرْ. 
لكنني أعرف أنه من دمعة البشرْ.

—  في الأدب السريالي يمكن أن يحدث كل شيء، وأيّ شيء.

—  الحياة في النهاية، مجموعة من القوانين المتنازعة.

— إنك لم تعرف البشر إلاّ إذا انغمست في غمارهم، ولا تعرف المدن إلاّ إذا تشرّدت في أزقتها، ولا تعرف الحضارات إلا إذا قذفت بروحك في أتونها.

— التقييم النهائي: ٨ من أصل أم الدنيا 🇪🇬.

تعليقات

المشاركات الشائعة