تسوكورو، الذي يصنع الأشياء

 تقييم ومراجعة رواية تسوكورو تازاكي عديم اللّون وسنوات حجّه للمؤلف الياباني هَاروُكي مُورَاكامي عن ترجمة أحمَد حسن المعيني وعن نشر دار الآداب ٢٠١٣ 


هذهِ تجربتي الأولى في قراءتي للمؤلف الياباني ذَائِعُ الصِّيتِ، هَاروُكي مُورَاكامي، كنت أردت قراءة مؤلفاته من وقتًا طويل، من فترة الحجر الصحي وقبلها، فقد كنت التقي بقرّاء كُثر عبر التواصل الاجتماعي وكان هذا الرجل واحدًا من توصياتهم، فها أنا أخيرًا أخوض التجربة اليابانية مجددًا مع مؤلفًا مشهور.

«تسوكورو» شاب جامعي في عقدهِ الثالث، تخرج فكرة في رأسه وهي الفكرة الوحيدة التي يفكر بها طيلةً هذهِ الفترة من حياته، وهي "الموت". كيف ينهي حياته؟ ولماذا ينهيها؟ … نأخذ نظرةً خاطفة سريعة على حياته، روتينه، محاضراته الجامعيَّة، الوجبات التي يأكلها حينما يجوع فقط، وجرعة الويسكي قبل النوم، رغم إنه لا يشرب، نمَّر بلمحة خاطفة عن حياته سريعًا لأننا سندخلها بقوة مرةً ثانية، وأخيرًا يترك عقله يسرح ليفكر بالموت ثانيةً، ويربط نفسه بشدة حول هذا الروتين اليومي لا أصدقاء ولا علاقات ولا نساء أصداءه الخاصة فقط.

مثيرة بأسلوب مميز خاص بها، لازلت على الشاطئ لكنني استمتع بالرَّياح اليابانية، من ملامح إلى كليَّات وحتى مخططات محطات القطار، التي مؤخرًا خضت تجربتها لمدة طويلة باستمتاع تام مع وجهات متعددة في مدينتي الرياض، وها أنا الآن اخوضّها في اليابان، مع عشق تسوركور..

آه كل تفصيلة في الرواية جذّابة بطريقةً ما!

سيَّر القصة هادئ ومتناسق، ولدينا شخصيات محدودة نستطيع التعبير عنها بأريحية لأننا تعرفنا عليهما مسبقًا من بطلنا. متماسكة جدًا وكأنها قطعة أسمنتيه صلبة وضعت بإتقان! اتسأل كيف ينسج عقل الإنسان شيئًا متماسكًا مثل هذهِ التحفة! فكثيرًا من قراءاتي وجدت إنني أتوه وكأنني وصلت لمدينة تختلف كليًا عن مدينتي، فأبحث عن كل شيء وعن حتى اللغة التي سأتحدث بها، لكن إحساسي مع «تسوكورو»، مختلف تمامًا.

سعيدة جدًا ومحظوظة بأنني قفزت من رواية هندية أمريكية إلى رواية يابانية بنفس درجتها اللغوية الساحرّة، كيف تسحرني اللغة وتجذبني، حتى مع الأحداث المتصورة فقد دمجت بريقًا ممتعًا في الفقرات مما ذكرني بغرفة يعقوب التي كانت مميزة والتي خلقتها أصلًا في العصر الأدبي وهي تيار الوعي، هنا لدينا هذا النوع من السرد الأدبي لكنه متماسك جدًا على غرار غرفة يعقوب، لدينا شخصية قد تكون مضطربة نوعًا ما، من خلال الحديث عن نفسها، لكننا في صورةً أخرى نجده متزن وقادر على عيش حياة كاملة. حتى لو كانت بلا لون أو كانَ وعاءً فارغًا!

صحيح أنه بلا لون، ولأن أصدقاءه الأربعة كلهم أسماءهم تدل على لون معين، سواء الأحمر الأزرق الأبيض. إلا هو! فقد كان مختلفًا عنهم، حتى في الظرف الاقتصادي. لكنه كان بين صفحات كتابي له لون خاص، يميل بين الزرقةً والبنفسجي، رسمت ملامحه التي رأيتها وها أنا أقضي وقتًا معه، وأتخيّل حواراتنا، بعد أزمة فض العلاقة للخمسة الأصدقاء الذين كانوا سويًا لمدةً طويلة، دخل بطلنا في معركة ذاتية لا تنتهي، في حلقة مفرغة توجه هذهِ الحلقة كل أصابع الاتهام عليه، لأنك بلا لون! فما كان الموت إلا خيارًا، لأنه حتى لم يسعى لمعرفة الحقيقة! وقد قالها لم أرَ في الحقيقة منقذًا لي! فكيف لو تعرف عليها؟ …

يرون الآخرين -وأنا أيضًا- أنَّ تسوكورو تازاكي، الرزين الرصين، الذي دائمًا ما يفعل الأشياء على مهله. لكنه في الحقيقة يحدث نفسه قائلًا: لا. لستُ رزينًا ولا رصينًا. ولستُ أفعل الأشياء على مهلي. هي مسألة توازنٍ لا أكثر. كلُّ ما في الأمر أنِّي أجيد نقل الثقل الذي أحمله من جانبٍ إلى آخر من نقطة الارتكاز. قد يرى الآخرون في ذلك رزانةً، لكنَّ الأمر ليس سهلًا، ويستغرق وقتًا أطول ممَّا يبدو. وحتَّى إن وصلتُ إلى التوازن الصحيح، فذلك لا يقلِّل من الوزن الإجماليّ شيئًا.

بدأت حياته كله من خلال اسمه، واختيار ابيه لأسم «تسوروكي»  والذي يفسر الصناعة البناء، وقد اختار الرمز الصيني المناسب «يخلق» فقد ارتأى أنَّه اسمٌ أبسطُ وأخفّ. هكذا أصبح الشخص المدعوّ تسوروكو تازاكي. قبل ذلك لم يكن شيئًا. مجرِّد شَواشٍ مظلمٍ لا اسم له. قطعةُ لحمٍ وردِّيةٌ لا يبلغ وزنها ثلاثة كيلوغرامات، بالكاد تستطيع التنفُّس في الظلام، أو البكاء. في البدء، مُنح اسمًا. بعد ذلك نما وعيُه، وذاكرتُه، ثمِّ أناه. لكنِّ الأمر كلّه بدأ بالاسم.

أننا بدأنا بصدمة قوية عن لحظة في حياة «تسوروكي»، لحظة تعبر لك عن بحر الآسى الذي يشعر به، لكننا نجهل السبب حتى بعدما تعرفنا عليه في حياته السابقة، هو يشعّر بالألم والحزن جراء ما فعلوا به أصدقاءه لأنهم كانوا في مرحلةً ما في حياتهم كالجماعة المنظمة المتآلفة. وكانت تلك المرحلة حينما كانوا تلاميذٌ في الثانوية أنَّ أكثر ما كانوا يفعلونه هو اللقاء في مكانٍ ما، أو قضاء الساعات في الأحاديث، لا لأنَّهم يحضِّرون مسبقًا ما سوف يتحدِّثون فيه، بل لأنَّهم دائمًا ما يجدون شيئًا يتحدَّثون عنه. كانوا متصلين ببعضهما بعض بطريقةً ما يشكلون بعضهما من خلال حواراتهم واندماجهما مع بعضهم رغم اختلافاتهم الطفيفة وقد شكّلوا دائرة أمان في مدينة ناغويا. تطويها أسرارًا عديدة مختبئه عنهما.

بالمناسبة بطلنا مغرم جدًا بالمحطات وتصاميمها وحتى القطارات، وأنا بعد فتح قطار الرياض بدأت الصعود على متن القطار والذهاب إلى مقر دراستي، صحيح أن الوقت لا يفرق كثيرًا في ذهابي بقيادتي أو صعودي للقطار إلا إنها أقّل توترًا وتركيزًا وباستطاعتي ممارسة مهامي دون التشتت في الطريق أو حتى انتظار إشارة مرور لكي اطالع جوالي المحمول، ومؤخرًا فتحت محطة قصر الحكم، وكل ما توقفت أمامها لصعود الركاب تأملت المحطة التي مشبعة خضرةً فهذا المنظر يجذبني وكأنني ولدت من شرنقة نباتية، ليس من رحم بشري، أيّ ورقة تميل للخضرة تنعش فيني الروح، كما ينعش المطر الأرض اليابسة والأرواح العطشة، فأسرق النظر وأنا في مقعدي واستمع لترحيبات موظفينا السعوديين، يرحبون بالقادمين والراحلون ويساعدون كلّ من ضيّع وجهته! المحطة ملفته ورغبت أن انزل من متن القطار والتجول فيها لكن لا يسعني الوقت فهناك مسافة طويلة يجب قطعها ومحاضراتي تنتظرني. وبعد حين قرروا عائلتي زيارة المحطة في شهر رمضان، يا الله الكريم كانت مذهلة بشكل ترتعش به روحي! كانت خضراء جدًا ورطبة وحيَّة النباتات في داخلها وكأنني دخلت إحدى عوالم الروايات التي تنبض قصصها في زوايا الغابات، نعم تذكرت ذلك المشهد من الجزء الثاني لفيلم سلسلة ألعاب الجوع حينما حُبست «كاتنس». ذلك المنظر والإحساس والمبنى الشاهق المصمم بطريقة تصاميم موقع قصر الحكم! ذُهلت ولوَّح لي «تسوروكي» وفهمت شعوره الآن! فأخذت اصور وأعبّر عن مشاعري إنني التقيت «بتسوروكي » سريعًا في فترة قصيرة، وفي لحظة تشبهه بشدة! أنها لحظة حبهِ للقطارات والمحطات! وها أنا كنت مغرمة في محطة كافد، والآن محطة قصر الحكم تحتل وتتصدر في قلبي، لأنها مليئة بالحياة الناضبة والخضار المزهي ولأنني التقيت «بتسوروكي»، وكأنني لوحدي أفهم لماذا يحب المحطات؟.. ولماذا القطارات؟ وياكبر حظي إنني خضت التجربة في فترة قصيرة مزدحمة ببطلي وبمحطة قصر الحكم. فكانت حجرة بعصفورين.

عادةً بعض الروايات أو الكتب تسبّب لي نوعًا من التشتت، لكن هذهِ مختلفة قليلًا فلديها رتم هادئ مميز كما قلت سابقًا، مع الضوضاء التي دائمًا أشعر بها في شهر رمضان إلا أنني حينما افتح صفحات «تسوكورو» الأولى أشعر بالهدوء التام، غير مربكة، متماسكة جدًا، ولديها طريقًا واضحًا فلا تريد أن تضيّع ووجهتها سالكةً مباشرةً.

عذبةً جدًا وسلسة، أحبّ هذا النوع من الأعمال، ذات الطابع اللغوي الجذَّاب، كانت اللغة مسيطرة على مزاجي وذائقتي، رغم قلّة اهتمامي بالشعر العربي سواء القديم أو الحديث. إلا أن الطرح اللغوي يُغريني ولو كان المعنى بعيدًا عن الأدب، اللغة حيَّة ومثيرة بطريقتها الخاصة تستطيع الاستحواذ عليك هي تشبه المرأة الذكية التي تعرف كيف تتصرف!

تعمقنا في وحدة «تسوكورو» كثيرًا ودخلنا بين طيَّات علاقاته قصيرة المدى والمختلفة التي غالبًا تبنى على التوافق الفكري وأن كانت مع النساء فيكتفي فيها على التوافق الجسدي أو الجنسي، دخلنا في متاهات عقلة شديد الخصوبة، ومع الأحلام المثيرة التي لا تنفك عنه! وعن صديقاته التي قررن هجرانه مع بقية المجموعة! 

قرأت أن الرواية تحمل تحت جلدتها طابعًا من أسلوب "كافكا"، رغم إنني لم اقرأ لكافكا، وشديدة الولع بقراءة أعماله خصوصًا كافكا على الشاطئ، وهذهِ الإشادة ستكون كتذكرة على رواية "هاروكي". 

لازلنا نسيَّر ببطء وهدوء وكأننا على وشك الغرق في ظلام الطين لكننا نرفع أقدامنا بهدوء ونمشي خطوةً خطوةً لنعكس نوايا الطين. هذا المميز في أسلوب «هَارُوكي مُورَاكامي»، هي بدايتي الأولى وتجربتي البكر، لكنني أجدها تبدو مثل ما أشتهي أن تكون الرواية. نصل أخيرًا لمعرفة الحقيقة من فمَّ أحدى الأربعة، بعد فحص سارا المدققة، رغم إنها وجودها الضبَّابي إلا أنَّ «تسوروكي» يهتم بها ويميل إليها — وصلتْ إليه المعلومات عنهم، وقادته لقرار أن يفهم الحقيقة التي تجرعها سنين طويلة، فكيف يحتمل المرء غدرة أصدقاءه دون حتى معرفة الحقيقة؟ — إنها لن تضيف سوى الألم! وقرر أن يحتمله مع كشف المستور… بلا شك حتى نحنُ القرّاء نتشوق لمعرفة السبب رغم خوفي الشديد. لأن كشف الغطاء أو المستور قد يتسبب في مشاكل أعظم من إخفاءه.

رغم إنه كانَ نظيفًا، مرتَّبًا، مهندمًا، ومؤدَّبًا. إلا أنَّ فكرة أنه بلا لون، وأنه وعاءٌ فارغًا، بلا عيوبٍ أو مظهرٍ بارزًا. كانت تسيطر عليه، في اعتقادهِ النفسي، أنه ليس بذكاء «أكا»، ولا مرح «أو»، ولا بخفّة «كورو»، ولا حتى بحلاوة «شيرو». شيرو! آخ التي تحمل خفايا في رمادها، تحمل الحقيقة كاملة! لماذا دفعت نفسها للكذب بحق «تسوروكي؟» وتفسير أحلامه الجنسيَّة معها ربما قد تكون دليلًا على حقيقته المرَّه التي تجرعها مع «أو» في الدكة، مع أكواب شركة ستاربكس. بعد ستة عشر سنة!

ندخل عوالم جديدة بهدوء وببطء شديد وكأننا نوَّلد في أجساد الأحداث ولكنها ولادة بطيئة وغير مستعسرة، فنخرج في أحداث مختلفة ونكتشفها ونرى جوانب أخرى منها، مثلما نرى جوانب من شخصيتنا، «تسوروكي تازاكي». يعود لدائرة جديدة ليفتح أبواب الألم المؤصدة، التي بكى أمامها ولو تحدث إلى الثلاثة كلمهما لكن هناك عنصر مفقود، عنصر ميت، فكيف سيعرف الحقيقة الكاملة؟ …

تناقص شخصية «شيرو» تثيرني نوعًا ما، وتذكرت كيف كان «هومبرت» يصف «لوليتا»، وكشفت الغطاء «آذر نفيسي»، تدافعت أفكاري بسرعة قوية وكأنها محرك رياضي في سيارة إحترافية، انجذبت إليها في عقل «تسوروكي»، كرهتها في منطق «أو»، وتعاطفت معها في ارتباكة «أكا»، إليسَ هناك مصدرًا صادق يخبرني عن تناقض مشاعري هذهِ!! وعن حقيقة هذهِ الفتاة التي تسببت بالألم لهما؟ وخصوصًا الذي تعرض للأذى أكثر منهم «تسوكورو» !

لذة لغتها الشهيَّة تذكرني بأنني تمتعت كثيرًا بصحبة غرفة يعقوب التي تكررت ثانيةً مع قبل أن نزور الالهة، ولاحظت شيئًا مهمًا جدًا قد يثير فضول قارئي العزيز، وهي أني كلما تأنيّت في قراءتي وجدت ما أبحث عنه فعلًا! وكلما استعجلت في القراءة، قرأت كتبًا غير شيّقة وفي غير موضعها في عقلي الرمادي! لهذا ما تكسبه من بلبلتي هذهِ أن تنتقي قراءاتك فعلًا وتختارها بعناية فائقة، وتعيش معها أيامًا أطول، لأنك كلما تأخرت كلما اتقنت اختيارك، كلما اتقنت رحلتك بإمتاعك، صحيح إني استعجلت في قراءاتي السابقة لكنني وجدت ما غطست له، وتوجهت لما ما يعجبني. وها أنا الآن افهم ماذا يعني أن تنتقي اختياراتك في الكتب.

وأمَّ بشأن لغتها التي تشبه غرفة يعقوب، على مدّ بصره أرضٌ قاسيةٌ تتناثر فيها الصخور، دون قطرة ماء، ولا عشبة. عديمة اللَّون، لا ضوء فيها يُذكر. لا شمس، ولا قمر، ولا نجوم. ولا إحساسٌ بالجهات. ثمَّ في أوقاتٍ محدَّدةٍ، يتناوبُ شفقٌ غامضٌ وظلمةٌ لا قعر لها. حدٌّ بعيدٌ على أطراف الوعي. لكنَّ المكان كان ذا وفرةٍ عجيبة. ففي وقتِ الشفق تأتي طيورٌ ذات مناقير على شكل أمواس، تغترف من جسده بلا هوادة. وما إنْ يخيَّم الظلامُ حتَّى تبتعد الطيور، وتملأ الأرضُ في صمتٍ تجاويفَ جسده بشيءٍ آخر، بمادةٍ أخرى غير معلومة. — لهيب اللغة يجعلني أقف أمام النص وقفات لحظات طويلة.

سنكون في دائرة جديدة لكشف ذات قديمة، حاولت تشويه صورةً نظيفة جدًا -بحد علمنا-، لكننا نواجه نفس الموقف في الحاضر القريب، شبيه بالماضي الذي جلّب المتاعب وفراق لستة عشرة سنة! واجهة أصدقاءه «تسوكورو»، ثانيةً لكن هذهِ المواجهة كانت لكشف الحقيقة، لكشف شيئًا لم ينم طويلًا، عن رماد فقد لمعته الماضية، وعن حقيقة في فم إنسانة ابتعدت عن ناغويا واستقرت بزوج وأطفالًا في مدينة فنلندا .. كلنا على موعد الحقيقة في هذهِ المقابلة، فكيف ستكون النتيجة التي سافر إليها «تسوكورو» نصف الأرض ليخرجها من فم «أولغا!» وكيف ستمرّ أن كانت من كذبات أو حقائق؟

كلما وصلت لوجهتي كان هناك مخرج إجباري يجعلني انتظر للغد! فكيف انتظر الغد وهو من عمري؟ … صرت في الغد، وكشفت الحقيقة وكما توقعتها، لأنني كنت أعيش معه شعور الوحدة منذ الصفحات الأولى، أدركت شخصًا مثله لن يستطيع على فعل ما اتهمته بها «شيرو»، وأحلامه، كما شعرت، إنها كانت الحقيقة التي لأبد أن يفهمها، انطوائية … كانت رسالة مطبنّة، كانَ صديقًا مُخلصًا لا أكثر، وتعرض للألم.

عادةً الوصول إلى الحقيقة دائمًا طويلًا ومرهق ومتعب، وحتى قد تقرر تغيَّر وجهتك لأنك فقط مللت وتعبت. ولاحظت أننا سنكون في رحلة صعبة لكشف المستور لأن بطلنا أخذ وقتًا حتى يصل إليها ونحن معه!

قرأت عن مشاعر «تسوكورو» كثيرًا لكن بينهن صدقًا كانت أمام حقيقة «إري» التي كانت السبب الرئيسي في إعدام «تسوكورو» وتصديق ما قالته «شيري» لهم. — لا أعرف ما إذا شخصٌ دفعني أم أنِّي وقعتُ وحسب. في كلتا الحالتيْن، تُبحر السفينة، وأنا في الماء المظلم المتجمَّد، أنظر إلى أضواء السفينة تخبو في البعيد. لا أحد من الركّاب أو طاقم السفينة يعرف أنِّي وقعتُ منها. لا يوجد شيءٌ أتشبَّت به. ما زلتُ حتى الآن أخاف أن أُحرم فجأةً من وجودي، ويُلقى بي مرَّةً أخرى في البحر من دون خطأٍ منِّي. ربَّما لهذا السَّبب لم أستطع أن أقيّم علاقاتٍ قويَّةً مع الناس. كُنتُ دائمًا أترك مسافةً بيني وبين الآخرين. لعلَّه جزءٌ من شخصيَّتي، شيءٌ وُلدت به. ربَّما كان لديَّ ميلٌ فطريٌ إلى ترك مسافةٍ بيني وبين الآخرين. كان هذا ما يشعر به «تسوكورو» حينما فقد اصدقائه جراء هذهِ الكذبة التي رمته لمكانً بعيدًا مُخيف بارد ووصفه مؤلم فعلًا هي مشاعر داخلية لكنها قد تنجرف إلى حدٌ بعيد. 

المصادفات كثيرةً في هذه التجربة، انتهيت من تجربة محطات المترو وصولًا إلى العرض التلفزيوني «هانيبال»، تمنيت كثيرًا إنني قرات الرواية لكن من حظي إنني تابعت موسمين قبل أن اقرأ الرواية وقد ذكرت، حتى في الأدب، شخصيَّة «هانيبال ليكتر» من رواية صمت الحملات كانت لها ستَّة أصابع. مع الأسف لم اكتشف ذلك بعد، لان تبقى لي عدة حلقات وموسم أخير -الثالث-، لكن سعيدة أن كل شيء في الرواية يدفعني للتجربة والمغامرة والخوض في تفاصيلها ومشاركة بعض التجارب. فأظن هذا الهدف من القراءة أن يحيطك بكل شيء ويحشر أنفه الأدبي في داخل حياتك.

إيقاع الرواية ولغتها مذهلة وعميقة، وكأنها معزوفة جبان، لهانس زمير، من فيلم انتستريلر. هادئة ثم عاصفة ثم مربكة، وتعود سريعًا لنغمها السريع! اسمعها الآن وانا أكتب فترتبك أصابعي وكأنني أعزفها انا. اجتمع هذين العملين على إنهما نغمات وكلمات فنيَّة خالصة. نقيّة.

إلى كل القرَّاء المتذوقين في الأدب، شكرًا على توصيتكم الحارّة، شكرًا على دفعي لتجربة فذّة من الأدب الياباني، حقًا، استمتعت بهذهِ التحفة، وأتمنى أن يكون أسلوبه في كل إصداراته بهذا القدر العالي.

النهاية.. جيدة بعد ما أستوعبت بلمحة قصيرة هدف الرواية الأساسي، أن يفهم بطلنا ما حقيقة اقصاه من أصدقاءه المفضلين. والمفترض من القارئ الكريم أن يتصور النهاية ويبنيها على الأحداث الأخيرة. نعم هذهِ الفكرة الصحيحة والجيدة لنهاية مثل هذهِ لكن لأنني أشعر بعدم الشبع أو الأكتفاء نظرًا للحدث مع «سارا» والرجل الآخر رغم إيماني الشديد بأنه والدها أو أخيها إلا أنني انتظر ردة فعلها ولحظة تبريرها، لكن الكاتب قرر عدم الالتفات إلى هذهِ النقطة. هل هناك جزء ثاني؟ .. لا أدري! لأن النهاية ليست مرضية كفاية. يعني نعم انتهت المسألة العاطفيَّة التي ذكرتها «سارا» لكن.. هناك حدث بسيط لم يذكر.

في النهاية، الرواية رائعة، وكأنها بلسم على جرح من تم اقصاه من أصدقائه، متماسكة، ومذهلة لغويًا، شكرًا للمترجم على عدم إحساسي بأنني اقرأ ترجمة من لغة أخرى، شكرًا على إيصال المعنى بوضوح لغوي سخَّي. وشكرًا للكاتب على تقدير مشاعر الإنسان الذي توقف ضده اصدقاؤه فخرج لنا بهذهِ الرواية ليطيّب جراح من شعر بذلك وإدراك إنه ليس دائمًا الذي تم اقصاه يكن مخطئًا. والنهاية جيدة. 

أنَّ الإنسان إذا ما أراد أن يكون رياضيًّا، فعليه أن يتعلَّم فنَّ الخسارة.

تسهُلُ الحياةُ حين تحدِّدُ أهدافك.

لم أرَ في الحقيقة منقذًا لي.

بوسعك إخفاء الذكريات وقمعها، لكنَّك لا تستطيع أن تمحو التاريخ الذي أنتجها.

ثمَّة أفكارٌ ينبغي أن تبقى في مكانها.

العاداتُ في حقيقة الأمر هي التي دفعت بحياته إلى الأمام.

الألم هو الذي يفضي إلى التفكُّر.

العالم لا ينقلب بسهولة. الناس هم الذي ينقلبون رأسًا على عقب، وهذا شيءٌ لا آسَف على تفويته.

لكنَّ الموهبة لا تشتغل إلَّا حين يدعمها تركيزٌ عقليٌّ وجسديٌّ قاسٍ لا يكلّ.

قد تكون الموهبة زائلة، وكثيرون لا يستطيعون أن يحافظوا عليها طوال حياتهم، لكنَّها تمحنك قفزةً روحيَّةً هائلة.

إنَّ الحياة تستحقّ أن تعاش.

هي قصَّةٌ مُحزنةٌ بالتَّأكيد، لكنَّها تحدث دائمًا في عالم الفنّ. الموهبة مثل الوعاء؛ حجمها لا يتغيَّر أبدًا مهما بذلتَ من جهد، لا يمكن أن يحوي الوعاء كمِّيَّةً أكبر من الماء.

التعليم شيءٌ لا يمكن الاستهانة به.

في الحياة مسائل معقَّدة جدًّا لا يمكن شرحها بأيِّ لغة.

التفكير العميقُ يستلزم الصمت.

هناك جانبٌ من العالم لا يمكن التعبير عنه إلَّا بالموسيقى.

العالم مليءٌ بالأشياء التي لا تكفيها المشاعر. الحياةُ طويلةٌ، وقد تكون قاسيةً في بعض الأحيان. وأحيانًا، لا بدَّ من وجود ضحايا. لا بدَّ من أن يؤدِّي أحدٌ ذلك الدور. وأجساد البشر هشَّةٌ، يسهل تحطيمها. فما إنْ تشقّها حتَّى تنزف.

— التقييم النهائي: ٩ من أصل ١٠ 🇯🇵.


تعليقات

المشاركات الشائعة